خيار التحولات المشروعة والمسؤولة لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد لم يقبل القسمة على الكل الفلسطيني، لأن بعض القوى بقيت أسيرة شعار "تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر"، واعتبر هذا التيار ما ذهبت إليه القيادة الشرعية تنازلا خطيرًا عن الحقوق الوطنية التاريخية. 
وتجاهل هذا البعض قراءة الواقع بمستوياته المحلية والعربية والإقليمية والدولية، ووضع رأسه في الرمال كالنعامة. وساهم في ذلك، بروز تيار إسلاموي غير أصيل، لا يمت للوطنية بصلة، ويرفضها من حيث المبدأ، لأن منظومته العقائدية تتناقض مع روح الوطنية، ويمثل هذا التيار حركة حماس، فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، والتي استخدمت الخطاب الديماغوجي باسم "المقاومة" و"رفض الاعتراف بالدولة الإسرائيلية" والمناداة بـ "تحرير فلسطين كلها" لتسويق ذاتها في اوساط الشعب والأمة العربية وللأسف الشديد تناغمت معها قطاعات من الشعب والنخب العربية.
بيد أن سيرورة وصيرورة الأحداث والتطورات خلال العقود الثلاثة الأخيرة كشفت للفلسطينيين والنخب العربية، أن نشوء حركة حماس لم يكن لتعزيز المشروع الوطني، إنما لاستهدافه، وهزيمته عبر عملية تمزيقه وتقسيمه، وهو ما كرسه انقلابها على الشرعية الوطنية أواسط عام 2007 باختطافها قطاع غزة، والسيطرة عليه، ورفض خيار المصالحة، رغم كل الاتفاقات المبرمة بينها وبين منظمة التحرير ومازالت حتى الآن تساوم على المشروع الوطني مقابل تسيدها على المحافظات الجنوبية كجزء من مخطط التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي يستهدف كل شعوب الأمة العربية، ولخدمة المشروع الأميركي الإسرائيلي الهادف لتعميق عملية التقسيم الهوياتي لشعوب الأمة على أساس ديني وطائفي ومذهبي وإثني، وبناء الشرق الأوسط الجديد.
ولم يعد المشروع خافيا على الكل الوطني بمن في ذلك أولئك، الذين تساوقوا مع فرع جماعة الإخوان في محافظات الجنوب لاعتبارات ذاتية وموضوعية (ليس هنا المجال لعرضها). جملة التطورات ساهمت في إضعاف المشروع الوطني، ولا تقتصر عملية التراجع النسبي عند حدود العامل الذاتي، وإن كان هو أخطرها، بل لعب ضعف وتهالك العامل العربي، والصراعات والحروب البينية العربية العربية، والعربية الإيرانية والتركية، وصعود اليمين القومي والديني (الأفنجليكاني) في الولايات المتحدة الأميركية مع تولي الرئيس دونالد ترامب، وتعاظم نفوذ اليمين الصهيوني المتطرف في إسرائيل خلال العقد الأخير دورًا مهمًا في إلقاء ظلال كثيفة وقاتمة على مستقبل الكيانية والهوية الوطنية الفلسطينية. بيد أن القيادة لم ترفع راية الاستسلام، ولم تذعن لإملاءات أميركا وإسرائيل وصفقتهما، ليس هذا فحسب، بل رفضتها، ومازالت تقاوم بحدود ما لديها من إمكانيات لصد الهجمة الشرسة.
في خضم هذه العوامل المعقدة، وقبلها لجأت القيادة الفلسطينية لإحداث اختراقات في جدران ومتاريس الاستعصاءات الإسرائيلية والدولية وحتى العربية لحماية المشروع الوطني، وصون الحقوق والثوابت الفلسطينية، التي اقرتها دورات المجلس الوطني الفلسطيني المتعاقبة منذ الدورة الـ12 عام 1974، والتي عمقتها الدورة الـ13 عام 1977، والدورة الـ17 عام 1984 والدورة الـ19 عام 1988 وصولا للدورة الـ23 عام 2018 حيث تم التأكيد على إقامة أي سلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، ثم جرى التوافق على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 مع ضمان حق عودة اللاجئين لديارهم وفقا للقرار الأممي 194. وتلازم مع ذلك إقرار قرار بالتواصل مع القوى الإسرائيلية المؤمنة بخيار السلام على أساس ما ورد أعلاه، وتطور لاحقا حتى فتح الباب للحوار مع كل القوى الإسرائيلية لإزالة الغشاوة عن عيون المضللين من أتباع الديانة اليهودية، الذين أعمتهم الصهيونية وقواها المتطرفة عن رؤية حقائق الصراع، وعن الاطلاع على مصالح وحقوق وأهداف الشعب الفلسطيني المتمسك بخيار السلام على اساس قرارات الشرعية الدولية، ومرجعيات عملية السلام بما في ذلك مبادرة السلام العربية.
وعلى هذا الأساس شكلت القيادة الشرعية لجنة للتواصل مع القوى الإسرائيلية لإحداث الاختراق المراد. ولم يكن عمل هذه اللجنة سهلاً، ولا يسيرًا، بل كما شبهه أحد الإخوة في اللقاء الأخير قبل أيام مع الرئيس محمود عباس، بأنه يشبه العمليات خلف خطوط العدو. بمعنى أدق هو عمل محفوف بالمخاطر على أكثر من مستوى وصعيد. وهذا العمل لا يشبه، وليس له علاقة من قريب أو بعيد بما يسمى التطبيع، بل هو شكل من أشكال المقاومة الوطنية لتوسيع دائرة التأييد لبناء جسور السلام الممكن والمقبول. وهنا يبرز السؤال هل نجح هذا الجهد في إحداث اختراق حقيقي داخل المجتمع الإسرائيلي؟ هل يؤثر على عمل لجان المقاطعة الدولية لإسرائيل؟ وهل يتعاكس مع دعوة الأشقاء والأصدقاء برفض التطبيع؟ أولاً يصعب الجزم أن لجنة التواصل أحدثت اختراقًا حقيقيًا. ولكن تم إحداث اختراقات محدودة، ويحتاج إلى مراكمة؛ ثانيًا لا يؤثر التواصل على عمل منظمة الـ "BDS" نهائيا، بل كل يصب في ذات القناة الوطنية؛ ثالثًا لا يؤثر ولا يضير التواصل بدعوة الأشقاء والأصدقاء لرفض التطبيع نهائيا، بل يكمله، ويعززه.
صيانة الهوية والشخصية والمصالح الوطنية في ظل الظروف المعقدة، وفي ظل اختلال فاضح وغير مسبوق في موازين القوى يحتم تصعيد المواجهة مع العدو الإسرائيلي الأميركي في كل الجبهات بما في ذلك داخل الجبهة الإسرائيلية ذاتها، حتى تحقيق هدف الحرية والاستقلال وتقرير المصير وضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم وفقًا للقرار 194.