لعلّ الحديث عن "دبلوماسية القوة" التي تميزت بها فترة حكم "ترامب" قد وصلت أو أوشكت على الوصول إلى نهايتها، مما شجع أحد الكُتاب الهامين في المجتمع الأمريكي أن يصفها صباح اليوم بـ "الدبلوماسية الميتة".
"ترامب" الذي مارس كل خطيئة سياسية ضد الفلسطينيين مزهواً بدبلوماسيته المتسمة بالقوة والغطرسة أحياناً وبالابتزاز أحياناً أخرى؛ أصبح اليوم مُعرضاً للعزل من قِبل "مجلس النواب" الأمريكي، ويواجه بالسخرية من نظرائه في "حلف الناتو"!
وهنا نود أن نُسجل للدبلوماسية الفلسطينية وعلى رأسها السيد الرئيس "محمود عباس" أنها أول من تصدت لـ "دبلوماسية القوة والغطرسة"، ولم تخشَ في الحق لومة لائم.
القيادة الفلسطينية المعهودة بصدقها وتواضعها ألزمت نفسها أن تنتهج أسلوب "الدبلوماسية البناءة" في رسم سياساتها، وترسيخ علاقاتها مع دول العالم المختلفة لتحقيق المصالح الوطنية الشعب الفلسطيني، مدركة أن سياسة "الخطوة خطوة"، و"مراكمة النجاحات" هي الطريق الأفضل للصمود في وجه "الغطرسة، والصلف، والابتزاز"، الأمر الذي حثّ العديد من دول العالم ـ بل يمكن القول الأغلبية المطلقة الكبيرة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة ـ من الاصطفاف إلى جانب الحق الفلسطيني المتسق مع قواعد القانون الدولي وشرعته الدولية.
ولقد سجل هذا الأسبوع نموذجين لنجاح " الدبلوماسية الفلسطينية البناءة"؛ الأول منها نلمسه في تصويت "الكونجرس الأمريكي" لصالح قرار يحمل رسالة جلية وواضحة للإدارة الأميركية نفسها، وربيبتها في "تل أبيب" مفادها؛ أن "السلام يأتي فقط عن طريق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، وأن السلام الحقيقي لن يتحقق دون العودة الى القانون الدولي والشرعية الدولية، وقد صوت لصالح القرار ما جملته 226 نائباً، فيما عارضه 188أخرين معظمهم من الجمهوريين".
مما يُعتبر رسالة واضحة للداخل الأمريكي وللعالم بأن "الكونجرس" يدعم حل الدولتين كأساس حل النزاع "الفلسطيني-الإسرائيلي"، وليس وجهة النظر المخالفة لمبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية، التي تحاول أن تفرضها "إدارة ترامب"!
ولأنه لازال في العالم من يُحسن قراءة " أدبيات الدبلوماسية " ويمعن في فهم إيقاعها ودورها في حفظ السلام الدولي وإنماء العلاقات الودية بين الشعوب والدول، يأتي هنا النموذج الثاني متمثلاً في رسالة وزير خارجية لوكسمبورغ السيد/ “جان أسلبورن" إلى المفوض الأعلى الجديد للسياسة والأمن للاتحاد الأوروبي؛ الإسباني الجنسية السيد/ "جوزيب بوريل" بالإضافة إلى وزراء خارجية الدول الاعضاء، بشأن الاعتراف الجماعي بدولة فلسطين، والتي أقتبس منها قوله؛ " إن النهوض بحقوق الإنسان واحترام القانون الدولي يكمن في صميم العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في السنوات القليلة الماضية، نشهد إضعافاً تدريجياً للقانون الدولي والنظام المتعدد الأطراف. في ضوء هذا الاتجاه المقلق للغاية، يجب على الاتحاد الأوروبي التحدث بصوت قوي وموحد في الدفاع عن عالم تسود فيه سيادة القانون، وليس "سيادة الأقوى". القانون الدولي يحمينا جميعاً. ويحمي بشكل خاص الأضعف".
هذه الكلمات الراقية، والمعبرة عن احترام الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي لم تأتِ للدفاع عن الحق الفلسطيني فقط؛ بل جاءت للدفاع عن "القيم والمعايير الدولية" التي ارتضتها " الشعوب الراقية " حين شرّعت قواعد العدل والانصاف التي يصونها القانون الدولي.
ولأن "الأيام دول"، ولأن التاريخ يحمل لنا أخبار "صعود وفناء" إمبراطوريات ودول عظيمة، لابد أن تكون هناك قواعد راسخة ومتفق عليها في التعامل بين الدول؛ حفاظاً على البشرية والموارد اللازمة لبقائها، لذلك كانت قواعد القانون الدولي، التي لا يمكن التغاضي عنها أو تجاوزها مما بلغت "غطرسة القوة" التي تريد فرض سياستها.
ختاماً؛ لابد أن نقر بنجاح الدبلوماسية الفلسطينية، رسمية وشعبية في التصدي لـ "دبلوماسية القوة"، وعملها الدؤوب في مراكمة نجاحاتها نحو احقاق الحقوق المشروعة كاملة للشعب الفلسطيني، ولكن على القيادة الفلسطينية إضافة نهج جديد للدبلوماسية البناءة المتبعة، يتمثل في "سياسة العقاب"، فكما أن هناك احترام وترسيخ المزيد من العلاقات الودية والصداقة مع الدول التي تحترم الشرعية الدولية، والتي تحرص على صون الحقوق الفلسطينية، لابد أن تبدأ المرحلة العملية الفعلية لمحاسبة، ومقاطعة، وعقاب "الدول المارقة" المخالفة للقانون الدولي، والمعتدية على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والإنسانية المعترف بها.
خاصةَ، أن المؤشرات على الساحة الدولية تسمح بذلك، وأن هناك ضوءً أخضر لـ "لجم الاحتلال" وداعميه من الخارجين على الشرعية الدولية، والقانون الدولي!
ولعلي أختم مقالي مذكراً بما قاله الأديب والشاعر الفرنسي الراحل "فكتور هوغو": " لا قوة كقوة الضمير ولا مجد كمجد الذكاء "، فهل هناك من يفهم؟!
وفشلت "دبلوماسية القوة"
13-12-2019
مشاهدة: 247
أحمد الغندور
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها