في ظلِّ تزاحمِ الأحداثِ التي تكادُ الذاكرةُ أنْ تضيقَ بها فتختلطُ الأيامُ والوجوهُ وأسماءُ القادمينَ والمغادرينَ، يبقى بمقدورِ الفلسطينيَّ أنْ يرويَ بأدقِّ التّفاصيلِ لحظاتِ يومِ الحادي عشرَ من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٤، يومِ رحيلِ ياسر عرفات/ أبو عمّار، وهو يومٌ توقّفَ عندهُ التقويمُ الفلسطينيُّ ولاذتْ عقاربُ السّاعةِ برُكنٍ معتِمٍ كي لا يرى أحدٌ دموعَها. لا يومَ في تاريخِ فلسطينَ يشبهُ يومَ رحيلِ "الختيار"، وهو الذي اعتدْنا على انتظارِهِ في اللحظاتِ الصّعبةِ ولم يتخلّفْ يومًا عن موعدِهِ، وقد وعدَنا هذه المرّةَ أيضًا بأنْ يعودَ إلينا، لكنّنا لم نفهمْ معنى قُبلاتهِ وابتسامتِهِ التي ودَّعَنا بِهِا وهو يطيرُ في رحلتهِ الأخيرةِ إلى المنفى ليعودَ كما يعودُ أبطالُ كلِّ الأساطيرِ محمولاً على نشيدٍ تحتارُ حينَ تسمعُهُ من الذي رَحلَ: أنتَ أم بَطلُ الأسطورة.
كلُّ ما في ياسر عرفات كانَ مُطابقًا لمقاسِ فلسطينَ التي ترسمُ كوفيّتُهِ خريطتَها بدقّةٍ متناهيةٍ معلنةً حدودَ حُلمهِ الذي لا يمكنُ أنْ يتخلّى عن تفاصيلهِ، وهو بذلكَ يجعلُ الكوفيّةَ برنامجًا سياسيًّا، ثُمَّ يورّثُها لنا كوصيّةٍ تختزلُ فكرةَ الثّورةِ التي سخّرَ حياتَهُ من أجلِها. لقد أتقنَ أبو عمّار صناعةَ الدّفاعِ عن فكرتِهِ وإجبارَ الواقعِ العنيدِ على الانصياعِ لإرادتِهِ. قدْ يأتي الأعداءُ في دبّابةٍ لتَقتلَ البذرةَ الأولى لفكرةِ الثّورةِ في الكرامةِ، أو قد يأتونَ ومعهُم كلُّ ما لديهم من نَقْمةٍ على شجرةِ الثّورةِ التي ضربت جذورَها في بيروت لتستظلَّ بها القدسُ. وقد يتستّرُ الأعداءُ بصمْتِ الأمّةِ وتخاذُلِها ليقفَ شارون خلفَ آخرِ جدارٍ جعلَ منهُ أبو عمّار متراسَهُ الأوّلَّ والأخيرَ.. قد يأتي الأعداءُ في كلِّ لحظةٍ، لكنَّ قائدَ الفدائيّينَ كانَ يجعلُ من وَهَنِ اللّحظةِ سرَّ اشتدادِ عودِ الفكرةِ واقترابِ القافلةِ من بوابّاتِ الحُلْم.
لا تدينُ فلسطينُ لأحدٍ مثلما تدينُ لياسر عرفات، لذلكَ نرى كيفَ أدمنتْ على حُبّهِ وجعلت اسمَهُ رديفًا لاسمِها، فلم يكنْ في التاريخِ الفلسطينيِّ منذُ عصرِ أجدادِنا الكنعانيّينَ رجلٌ يختزلُ في ملامحِ وجههِ وسيرتِهِ تفاصيلَ الوطنِ وأحلامَهُ كما فعلَ عرفات. لقد سكنتْهُ فلسطينُ حتّى صارتْ ترافقُهُ حيثُما بنى متراسًا أو حفرَ خندقًا أو كلَّما خاطبَ ضميرَ العالَمِ، ولأنَّ فلسطينَ كانت أصلَ حكايتِهِ فقدْ حافظَ على قدرتِهِ الأسطوريّةِ على الإفلاتِ من قبضةِ الحصاراتِ التي لاحقتْ خطاهُ لتجعلَها تحيدُ عن طريقِ القُدسِ ولو قليلاً، فكانَ أبو عمّار يحثُّ الخطى ويتركُ أعداءَهُ مشغولينَ بالبحثِ عن ظلّهِ دونَ أن يُدركوا أنّ طائرَ الفينيقِ الفلسطينيَّ قد أفلتَ من حصارِهم ليُكمِلَ حياكةَ خيوطِ أسطورتِهِ التي ستقودُهُ حتمًا إلى الوطن.
ظلَّ أبو عمّار وفيًّا لفكرتِهِ الأولى، وهي فلسطينُ، ومن أجلِ هذهِ الفكرةِ كانَ مُصرًّا على حرمانِ الأعداءِ من نشوةِ تحديدِ لحظةِ غيابِهِ، ولعلَّ هذا ما جعلَهُ قادِرًا على منازلةِ الموتِ والإفلاتِ من دهائهِ، فالموتُ كما يريدُ الأعداءُ وفي اللحظةِ التي يختارونَها هو النّهايةُ المؤكّدةُ للأسطورةِ الفلسطينيّةِ التي تسمَّى ياسر عرفات. وحتّى عندما ظنَّ شارون أنَّهُ أطبقَ الحصارَ هذهِ المرّةَ على أبو عمارَ واختارَ "المقاطعةَ" كمكانٍ لرحيلِهِ، أصرَّ الفدائيُّ الأوّلُ أنْ يُفلتَ من الحصارِ مرّةً أخرى ويختارَ فضاءَ المنافي التي ألِفتْ خطاهُ وملامحَهُ ليكونَ مسرحَ الفصلِ الأخيرِ من أسطورتِهِ التي تبدأُ مجدّدًا عندَ نقطةِ النّهايةِ، فيتحوّلُ الغيابُ في المنفى إلى رحلةِ العودةِ إلى الوطنِ الذي أصبحَ أحلى وأجملَ وهو يحتضنُ ياسر عرفات ويهمسُ في أذُنِهِ: أيُّها العائدُ من ألفِ منفى! لا منفى بعدَ اليومِ ولا حصارَ، فأنتَ الآنَ حُرٌّ في وَطنِك!
*ياسر عرفات ليس قائدًا أو رئيسًا عاديًّا، فهو ملكيّةٌ شخصيّةٌ لكلِّ فلسطينيٍّ، لا يسمحُ أنْ ينافِسَهُ عليها أحدٌ، ولا يُمكِنُ مقارنَتُهُ بغيرِهِ، إذْ لا أحدَ يشبِهُهُ، وهو الذي يُشبِهُنا جميعًا. وليسَ هناكَ ما يفوقُ اعتزازَنا بأنفسِنا حين نردّدُ في ذكرى استشهادِهِ: عِشْنا في زمَنِ ياسِر عرفات.
١١-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها