تكادُ أزمةُ الرّواتبِ أن تصلَ إلى نهاياتِها بعدَ فترةٍ طويلةٍ عانى خلالَها الموظَّفُ الفلسطينيُّ مشاقَّ الحفاظِ على مصدرِ العيشِ الكريمِ، وعانى من ورائهِ الاقتصادُ الفلسطينيُّ من الرّكودِ نتيجةً لتقلّصِ القُدرةِ الشّرائيةِ للمواطنِ العاديِّ، لكنَّ الامتحانَ الأكبرَ تمثّلَ في الحفاظِ على الثّقةِ بقدرةِ الحكومةِ على الوفاءِ بالتزاماتِها التي يفرضُها عليها القانونُ، وهي ثقةٌ تشكّلُ قاعدةَ الترابطِ الاجتماعيِّ والسّلْمِ الأهليِّ. ولعلَّ ممّا ما خفّفَ من وطأةِ "الشهورِ العجافِ" أنَّ عنوانَ تلكَ الأزمةِ كانَ لهُ طابعُهُ الوطنيُّ الذي يمثّلهُ الوفاءُ بالالتزاماتِ نحو الشهداءِ والجرحى والأسرى، وهذا ما يُحسَبُ للمواطنِ الفلسطينيِّ، خاصّةً في ظلِّ ما شهدناهُ ونشهدُهُ من ثوراتٍ شعبيّةٍ لأسبابٍ أقلَّ بكثيرٍ من تقليصِ دخلِ المواطنِ إلى النّصفِ. من هنا نخلصُ إلى نتيجةٍ لا جدالَ فيها: لا شيءَ يفوقُ لدى الفلسطينيِّ واجبَ الوفاءِ للوطنِ حتى لو حاولت بعضُ المظاهرِ الكاذبةِ أن تعطي للواقعِ صورةً مغايرةً في ظلِّ الانشغالِ بهمومِ الحياةِ اليوميّةِ وتعقيداتِها ومغرياتِها.
علينا بعدَ تجاوزِنا لتلكَ الأزمةِ وتحمّلنا مصاعبَها بجدارةِ الملتزمينَ بالكرامةِ الوطنيّةِ أنْ نعدَّ أنفسَنا لأزماتٍ مماثلةٍ وأنْ نستخلصَ النتائجَ التي تحصِّنُنا أمامَ أيِّ شكلٍ من أشكالِ القرصنةِ الإسرائيليةِ التي قدْ تأخذُ من العدوانيّةِ ما لا يخطرُ على بالِ شياطينِ الكونِ. وهناكَ الكثيرُ من مظاهرِ الخللِ التي كشفت عنها تلكَ الأزمة، لكنّ أهمّها ثلاثة:
أوّلاً: هناكَ خللٌ جذريٌّ يمسُّ وجودَ وأمنَ الأسرةِ الفلسطينيّةِ بصفتِها الخليّةَ الأولى في البناءِ الاجتماعيِّ، وهو الخللُ المرتبطُ بالقروضِ البنكيّةِ، وهي في غالبيّتها قروضٌ نقديّةٌ استهلاكيّةٌ سرعانَ ما يتمُّ تبديدُها ولا يبقى من أثرٍ لها سوى الالتزامُ الشهريُّ بتسديدِ أقساطها بشكلٍ يفوقُ في معظمِ الأحيانِ قدرةَ المَدينِ على الوفاءِ بشروطِ القرضِ. وعندما تكونُ هذه هي الحالةُ العامّةُ فهذا يعني أنَّ أساسَ الخللِ يكمنُ في سياسةِ البنوكِ ذاتِها، فمع الإقرارِ بأنَّ هذه المؤسّساتِ الماليّةَ ليست "جمعيّاتٍ خيريّةً" إلا أنّ حقّها الطبيعيَّ بالرّبحِ لا يمكنُ أن يكونَ حقًّا مطلقَ العنانِ دونَ سقفٍ لا يجوزُ تجاوزُه، لأنّ التّجاوزَ يعني ببساطةٍ الانتقالَ من الرّبحِ إلى الرّبا واستغلالِ حاجةِ المواطنِ بشكلٍ يجعلُ منهُ أسيرًا للبنكِ وشروطِه.
ثانيًا: على الإنسانِ العاديِّ أنْ يتعاملَ مع دخلِهِ الفرديِّ كما تتعاملُ الدّولةُ مع موازنتِها، فالدّولةُ القويّةُ والمستقرّةُ والمستقلّةُ هي تلك التي توائمُ بين دخلِها ونفقاتِها، وكلّما سدّت الفجوةَ بينهما بالقروضِ عرّضتْ نفسَها لابتزازِ الدّائنينَ وشروطِهم المجحفةِ التي تؤدي في العادةِ إلى تفاقمِ الأزماتِ لا إلى المساعدةِ في تجاوزِها. هذا هو الحالُ مع الدّولِ التي وقعت في مصيدةِ الاقتراضِ من صندوقِ النّقدِ الدّوليِّ أو البنكِ الدّوليّ. ولا تختلفُ أسسُ تنظيمِ دخلِ الأسرةِ والدّولةِ إلا بحجمِ المبالغِ التي يتمُّ التعاملُ معها. ولعلَّ الالتزامَ بمقولةِ "على قدر لحافك مدّ رجليك" هو طوقُ النجاةِ الذي يسمحُ دومًا بالعبورِ الآمنِ من معظمِ الأزماتِ والضائقاتِ الماديّةِ. وهنا لا بدَّ من التنويهِ إلى ضرورةِ العمل ما أمكنَ على تشجيعِ الإدّخارِ والتّوفيرِ كلّما كان ذلك ممكنًا، لأنّ الحياةَ في ظلِّ الاحتلالِ لا تحتملُ الاتّكالَ على الصّدفةِ والرّكونَ إلى الفوضى وانعدامِ التخطيطِ في كلِّ جوانبِ الحياةِ، وأولى مظاهرِ التخطيطِ يتجلّى في الموائمةِ بين الدّخلِ والمصروفاتِ وفي عدمِ الوقوعِ في مصيدةِ القروضِ، لأنّها لا تعرفُ الرّحمة.
ثالثًا: لا بدَّ من اتّباعِ سياسةٍ تكفلُ الفكاكَ التّدريجيَّ من التبعيّةِ للاقتصادِ الإسرائيليِّ، ليس فقط لأنَّ هذا الفكاكَ هو أحدُ مظاهرِ انتزاعِ الاستقلالِ الوطنيِّ، ولكن لأنَّ الخلاصَ من هذهِ التّبعيةِ يوفّرُ مستلزماتِ الصمودِ والكفاحِ من أجلِ الاستقلالِ الكاملِ بعدَ الفكاكِ من الاحتلالِ بكلِّ أشكالِهِ ومصائبه. نعلمُ أن التخلّصَ من شبكةِ العلاقاتِ الاقتصاديّةِ مع المحتلِّ يحتاجُ إلى انتهاجِ سياسةٍ متكاملةٍ توفّرُ البديلَ الوطنيَّ للمنتجاتِ الإسرائيليةِ، ونعلمُ أيضًا أنّ المحتلَّ يتحكّمُ بكلِّ ما يتعلّقُ بدورةِ الحياةِ الاقتصاديّةِ، لكنَّ الإصرارَ على توفيرِ البدائلِ سواءً من الدّولِ العربيةِ أو الصديقةِ سيكونُ مكمّلاً للمصدرِ الوطنيِّ وداعمًا لدورِه في توفيرِ البديلِ للوارداتِ الإسرائيليّة. وقد أثبتَ شعبُنا خلالَ أزمةِ الرّواتبِ أنَّ الكرامةَ أهمُّ من الخُبزِ، وهو على استعدادٍ للالتزامِ بنفسِ المقولةِ عندما يتعلّقُ الأمرُ بالفكاكِ من التبعيّةِ لدولةِ المستوطنينَ. الشرطُ الأهمُّ لتحقيقِ ذلكَ هو اتّباعُ الصّراحةِ والصّدقِ مع المواطنِ حتى لا يكونَ مصدرُ معلوماتِهِ الوحيدِ هي صفحة "المُنسّق".
*علينا تطبيقُ القولِ المأثورِ "اعقِلْ وتوكّلْ"، ولا يمكنُنا ترْكَ الصّدفةِ لتكونَ حكَمًا بيننا وبينَ ما يخفيهِ المستقبَلُ، بل واجبُنا هو أن نوفّرَ للحظِّ شروطَهَ ومتطلّباتِهِ ليصبحَ هدفًا سهلَ المنالِ.
٩-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها