ما بين انتخابات الكنيست الـ21 في التاسع من نيسان/ ابريل وانتخابات الكنيست الـ22 في الـ17 من أيلول/ سبتمبر 2019 جرت في الشارع الإسرائيلي والفلسطيني مياه كثيرة، مع أن الفاصل بين الجولتين لا يزيد عن خمسة شهور. لكنها كانت كافية لإحداث تغييرات نسبية في المشهد السياسي الإسرائيلي عموما والفلسطيني العربي الحامل للجنسية الإسرائيلية خصوصا. وبعض المراقبين يعتقد أن التغييرات كبيرة، وبعض ثالث لا يرى جديدا، ويعتبرها "مهزلة وسقوطا"، لاعتقاده أن كلا من تحالف اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، وتحالف "أزرق أبيض" وجهان لعملة واحدة. ولم يتمكن هذا الاتجاه من التقاط التمايز النسبي بين الفريقين الصهيونيين. صحيح أن كليهما يمين ويمين متطرف، ولكنهما يفترقان في بعض النقاط الرئيسية لجهة الدفاع عن المشروع الصهيوني، وليس حبا في الفلسطينيين.
بعيدا عن التقسيمات ووجهات النظر ذات الصلة بنتائج الانتخابات، فإن قراءتي الخاصة لحصاد الانتخابات الأخيرة وبالاستفادة ممن يتماثلون معي في الرأي، تتمثل في الآتي: أولا حدث انزياح نسبي في الشارع الإسرائيلي لصالح تكتل "أزرق أبيض"؛ ثانيا اتساع درجة الافتراق بين نتنياهو شخصيا كزعيم كارزماتي والشارع اليميني عموما، لانكشاف كذبه وألاعيبه الشخصانية؛ ثالثا كأن الشارع الإسرائيلي بدأ يميل للتغيير، وباتت لديه الرغبة برؤية قيادة جديدة. مع أنه لم يمنح زعيم تكتل "كاحول لافان" تفويضا كبيرا، وهو ما يشي أن هناك رغبة بالتغيير، ولكن بحذر شديد؛ رابعا انتباه وتغير في رؤية الكتل الصهيونية بمشاربها المختلفة لأهمية الصوت والمكانة الفلسطينية العربية في المشهد السياسي والبرلماني الإسرائيلي، رغم كل عمليات التحريض عليهم، وهو ما انعكس بالانفتاح النسبي وغير المعلن بين زعماء الكتل الصهيونية وزعماء القائمة العربية المشتركة، وحتى بالتوجه للجماهير الفلسطينية علنا أثناء الحملة الانتخابية وتبني بعضهم (غانتس وعمير بيريس، وميرتس .. إلخ) جزءا من مصالحهم؛ خامسا ودليل آخر على ما تقدم، ارتفاع نسبة عدد المصوتين اليهود الصهاينة للقائمة العربية المشتركة، وهو ما يشير إلى تولد ونشوء محاكاة جديدة في وعي ما يسمى "اليسار" وبعض اليمين الإسرائيلي تجاه الجماهير الفلسطينية العربية. وهذا لم يظهر فجأة، إنما نتاج تطور ملازم ومواز في خطاب بعض النخب السياسية الفلسطينية (أيمن عودة ومنصور عباس) تجاه موضوع العلاقة التبادلية بين المجتمعين؛ سادسا التحول الإيجابي في مزاج الشارع الفلسطيني تجاه المشاركة في الانتخابات، والارتفاع الملموس لنسبة التصويت بين الجماهير الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، الذي بلغ معدله العام لـ10%، ووصل إلى ما يزيد عن الـ60%، ووصل في النقب لحوالي 15%، لكنه انخفض نسبيا في المدن الرئيسية في الناصرة وأم الفحم. وايضا انخفاض نسبة التصويت للأحزاب والكتل الصهيونية. مع ذلك مازال الشارع الفلسطيني في داخل الداخل بحاجة لتمثيل دوره في الانتخابات العامة الإسرائيلية، لأن الصوت الفلسطيني مؤثر وهام في تحديد مصير الشعب الفلسطيني عموما وفي مناطق الـ48 خصوصا؛ سابعا زيادة عدد مقاعد القائمة المشتركة عززت من مكانتها كقطب أساسي في المعادلة الإسرائيلية، لا يمكن لأي جهة تجاوزها.
وهناك جوانب تفصيلية أخرى ذات مردود على المشهد الإسرائيلي عموما، يمكن لأقطاب القائمة المشتركة والنخب السياسية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية والنقابية والمجالس القطرية تعميقها من خلال العمل المتواصل لإحداث التحولات في الشارع الإسرائيلي بالاستناد لخطة منهجية وشاملة لتجسير العلاقة بين المجتمعين. طبعا هذا لا يعني أن المجتمع الصهيوني جاهز، وقابل للقسمة على المشروع الوطني الفلسطيني، ولكن تجربته خلال ما يزيد عن سبعين عاما، واستمرار الحروب والفوضى من قبل زعماء إسرائيل الاستعمارية أفقدهم الثقة والأمان على مستقبلهم، ومستقبل ابنائهم، ومستقبل مشروعهم برمته، الأمر الذي أملى وسيملي على الآخرين منهم الانفتاح على مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني. والمستقبل المنظور والوسيط بالضرورة قد يحملان حصادا أوفر وأغنى مما هو عليه الآن.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها