العنصرية بأبشع تجليّاتها لم تكن وليدة اليوم في دولة الاستعمار الإسرائيلية، إنَّما هي ركيزة أساسية في مركبات بناء المشروع الكولونيالي الصهيوني، وهنا المفارقة في عوامل الطرد والتضاد في بنية المشروع الإسرائيلي، فمن جانب عملت، وتعمل الحركة الصهيونية منذ نشوئها على تجميع أوسع عدد ممكن من اليهود المضللين في فلسطين، لتكرّس وجودها كمرجعية لأتباع الديانة اليهودية، ومن زاوية ثانية تجذّر وتعمق التناقضات الطائفية والمذهبية، والإثنية العرقية، وعلى أساس اللون، والجنس. فضلاً عن التناقضات الطبقية الاجتماعية، وحتى على تعريف اليهودي، كيهودي.
ولم يكن مستغربًا، ولا مستهجنًا تجلي وبروز التناقضات بين اليهود الشرقيين (السفارديم) والغربيين (الأشكناز) من اللحظة التي وصلت فيها الموجات الأولى من المستعمرين الجدد لفلسطين العربية نهاية القرن التاسع عشر، حيثُ تمَّ الفرز والفصل بينهما في أماكن السكن، والمدارس، والوظائف، والمهام الموكلة للشخصيات النافذة هنا وهناك، وآليات الترفيع داخل المؤسسات المدنية والعسكرية الأمنية. فلم تكن المعايير واحدة، ولم تكن أولويات الدولة واحدة تجاه أدواتها البشرية، وعملت المؤسّسة الحاكمة بمنطق "اسحق يرث، وموشي لا يرث.. إلخ"، الأمر الذي ترك بصمات قوية على تركيبة المجتمع الإسرائيلي، وفسيفساء مكوناته الإثنية والطائفية والمذهبية.
إنَّ ما حدث يوم الأحد الماضي الموافق 30 حزيران/يونيو 2019 من جريمة بشعة نفَّذها شرطي أبيض ضدَّ شاب يدعى سالمون تاكا (19 عامًا) من الإثنية الحبشية (الإثيوبية) أو ما يطلق عليهم "يهود الفلاشا" في حيفا بإطلاق الرصاص الحي عليه وإردائه قتيلاً، لم يكن وليد الصدفة، أو ناتجًا عن فعل طارئ، أو بسبب اعتداء من قبل الشاب على الشرطي، أو ناجم عن سوء فهم، أو خلاف على عقار، أو دين لشخص على شخص، إنَّما هو اعتداء عن سابق تصميم وإصرار من قبل الشرطي على الشاب الإثيوبي، لأنّه أسود، وكونه شرقيًّا، ولأنّه من "فئة ضالة"، ودرجة دنيا في المجتمع بمعايير الصهاينة الأشكناز المستعمرين، الذين ما زالوا يسيطرون على مقاليد الحكم في (إسرائيل). الأمر الذي أدّى إلى اندلاع هبة اجتماعية وإثنية ومذهبية من قبل "يهود الفلاشا" ضد الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وشكل من أشكال الرد على عملية التمييز العنصرية البغيضة، التي طالتهم منذُ وطأت أقدامهم مطار اللد في العام 1984 عندما تمَّ اختطاف أتباع الديانة اليهودية من الأحباش عبر السودان إلى دولة الاستعمار والتمييز العنصري الإسرائيلية زمن حكم الرئيس الأسبق، جعفر النمري، الذي باع نفسه لأميركا وللحركة الصهيونية والإخوان.
هذه الجريمة أيضًا ليست الأولى ضد "يهود الفلاشا"، إنَّما هي الثالثة خلال العامين الماضيين. ولن تكون الأخيرة، رغم تصريحات نتنياهو، رئيس الوزراء الفاسد، التي ادَّعى فيها، أنّه سيعمل على تصويب أوضاع يهود الفلاشا، الذين يقدر عددهم بـ 140 ألفًا، وتم إسكانهم في 21 تجمُّعًا خاصًّا، وتمَّ وضعهم في مدارس خاصة، وأسندت لهم مهام العمل الأسود والشاقة، وبمستوى دخل منخفض، "وساووا بينهم وبين الفلسطينيين"، حتى عندما تبرّعوا بالدم لبنك الدم الإسرائيلي، قامت المؤسّسات الطبية بكبِّ الدم في المجاري. وبالتالي ردّة فعل اليهود الإثيوبيين القوية، والتي ما زالت مستمرّة بوتيرة أخف عن الأيام الثلاثة الأولى، التي نجم عنها اعتقال 200 شخص منهم، وإصابة 111 من بينهم ومن الشرطة، ورفعت فيها شعارات سياسية رافضة للتمييز العنصري، وداعمة لفلسطين وشعبها، لإدراك "يهود الفلاشا"، أنّ مصيرهم، ليس أفضل حالاً من حال أبناء الشعب العربي الفلسطيني داخل (إسرائيل)، أو داخل أراضي دولة فلسطين المحتلة في الخامس من حزيران/يونيو 1967.
إنَّ هبّة "يهود الفلاشا" تؤكّد أنَّ الدولة الإسرائيلية، ليست مؤتمنة على اليهود، بل هي دولة معادية لهم، ولمصالحهم، وهي دولة ذات طبيعة وظيفية، تستخدم اليهود الأبرياء المضلّلين كأدوات لخدمة المشروع الغربي الاستعماري. وهي دولة عنصرية بامتياز، ولا تقبل القسمة والتعايش مع مبدأ دولة كل مواطنيها، ولا حتى دولة كل اليهود من مختلف الطوائف والمذاهب والإثنيات، وهي دولة تشكّل خطرًا على اليهود، وتهدّد اليهودية كديانة بالفناء نتيجة تعميقها التناقضات بين الطوائف والمذاهب اليهودية، وبين اليهود من أتباع الأمم والشعوب المختلفة، الأمر الذي يشير إلى أنّها ستواجه مستقبلاً أسودَ، لأنّها بمثابة اللعنة على الديانة اليهودية واتباعها من مختلف القوميات والأمم.