(المضمون: أصبحت الدولة الفلسطينية حقيقة واقعة في الوعي العام الدولي وإن لم تنشأ بالواقع. وأبو مازن لم يتحدث باسم الفلسطينيين وحدهم بل تحدث باسم أنصار السلام الاسرائيليين ايضا).
سمعت مرة في الكنيست ذات يوم، خطبتي آبا ايبان وغولدا مئير. كانت خطبة ايبان نتاج تفكير. وكان الرجل مدهشا: فمعجمه كان غير محدود، وكل جملة في خطبته كانت نموذجية، وكل ادعاء يقوم على أساس جيد، لكنه لم يقنع أحدا. وكانت خطبة غولدا بائسة. فلم يكد معجمها يبلغ 200 لفظ، وكان نطقها سيئا ودعواها ساذجة. لكنها كسبت قلوب جميع الحضور تقريبا.
عند ايبان انتبهوا للخطبة، وعند غولدا انتبهوا للمضمون. كان ايبان باردا، وكانت غولدا حارة. تذكرت هذه التجربة الشعورية حينما أصغيت الى خطبتي بنيامين نتنياهو ومحمود عباس. بدت خطبة نتنياهو وكأنها أخذت جميع الخطب الصهيونية في المائة سنة الاخيرة، وقصت منها المقاطع القوية وألصقتها معا. وكانت لغته الامريكية فصيحة، والعرض لا غبار عليه ولغة الجسم تامة.
لم يكن شيء من كل هذا في خطبة عباس. فقد تحدث بالعربية واستعان بتراجمة، وكان عرضه بسيطا جافا بلا حيل ولغته نثرية. وقد وصف الوضع الحقائقي. وتحدث نتنياهو أمام قاعة نصفها فارغ. وجاءت التصفيقات القليلة في الأساس من الوفد الاسرائيلي واليهود النظارة.
تحدث أبو مازن أمام قاعة مليئة مكتظة. فكل زعماء العالم تقريبا دخلوا وأصغوا. وجميع الوفود تقريبا قطعت كلامه مرة بعد اخرى بتصفيقات عاصفة ما عدا وفود الولايات المتحدة واسرائيل وايران.
تفوز فلسطين فوزا باهرا في المعركة على الوعي العالمي. فهي لا تحتاج الى موهبة خطابية. وفي عالم اليوم يبدو طلب الفلسطينيين للحرية والاستقلال مفهوما من تلقاء نفسه وكذلك ايضا معارضة المستوطنات – حتى إن نتنياهو لم ينجح في أن يأتي بسبب ما لتسويغها بل لم يحاول ذلك.
هذا هو الاستنتاج الذي لا لبس فيه من أحداث الاسبوع الماضي وهو ان الدولة الفلسطينية أصبحت قائمة في الوعي العالمي. وأصبحت حدودها ايضا مفهومة من تلقاء نفسها وهي خطوط 1967 والعاصمة القدس الشرقية. وبقي فقط سؤال كيف ستنشأ الدولة بالفعل وبأية طريقة ومتى. وكم من الدم – دمهم ودمنا – سيُسفك حتى ذلك الحين.
حينما أثرت أنا ورفاقي الحاجة الى سلام اسرائيلي فلسطيني في 1949 كنا قلة صغيرة في العالم كله. وفي ليل السبت، الثالث والعشرين من ايلول استُجيب هذا الطلب بعاصفة تصفيق من ممثلي العالم كله. أين غولدا التي قالت "لا شيء اسمه الشعب الفلسطيني"؟ وأين نتنياهو وقوله الاخير "كل شيء أقل من دولة فلسطينية"؟ العالم أجاب.
هذا الاستنتاج أهم من الخطبتين أنفسهما. وهو الأساس لكل ما سيحدث منذ الآن فصاعدا. بعد بضعة اسابيع سيتوجه الفلسطينيون الى الجمعية العامة وستجعل هذه التصفيق قرارا على اعتراف بفلسطين دولة غير عضو.
ذكر عباس في خطبته معسكر السلام الاسرائيلي عدة مرات. يجب على هذا المعسكر ان يقوم الآن وأن يطلب الى حكومته ان تصوت مؤيدة الاعتراف بدولة فلسطين في حدود 1967 والكف عن البناء في المستوطنات وبدء تفاوض جدي.
من المؤكد ان انشاء الدولة الفلسطينية بالفعل مقرون بمشكلات كثيرة شديدة، يمكن حلها جميعا بالطريق الى السلام. لكن السلام غير موجود في رؤيا نتنياهو بل صراع لا ينتهي وحرب لا نهاية لها لأجيال بعد أجيال.
في ذروة خطبة أبو مازن صاح: "كفى! كفى! كفى!". كانت تلك صرخة عفوية، فهي لم تظهر في نص الخطبة المكتوب. لكنه تحدث ايضا باسم اسرائيليين كثيرين. كفى! كفى! كفى!.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها