أحد أبرز دروس النكبة هو هذا الإصرار الفلسطيني على التذكر، على استعادة لحظات الألم تلك والعمل على الحفاظ عليها، ليس حباً في الألم ولكن بحثاً عن تجاوزه. ما حدث من ظلم غير مسبوق في التاريخ يريد كل العالم لنا أن ننساه وان نعيش تحت وقع متطلبات الحاضر، وربما من أول ترويدة باحت بها شفاه اللاجئة الفلسطينية في أول ليلة بعد التهجير القسري حتى الأهزوجة التي تروض بها سيدة الآن في مكان ما في مخيم للاجئين طفلها حتى ينام، ظلت ثيمة التذكر هي السر الخفي وراء البقاء الفلسطيني. حتى إن مات الآباء فإن الأبناء يتذكرون. فالحلم لا يموت. ولا يمكن له أن يختفي. فحتى في لحظات الخيبة والانكسار وحين يتسلل إلى دواخلنا الواقع المرير فإن تمسكنا بالمستقبل المنشود وحده من ينتشلنا من الإعصار. شعار لم يرفعه أحد لكنه الرابط الخفي للبقاء الفلسطيني يقول نريد أن نتذكّر. نريد لذاكراتنا أن تظل حية ومتقدة حتى لا يختفي الماضي حيث الحلم مثل كنز يرقد تحت تلة من رمل الفاجعة. لابد من إزالة الرمل فيخرج الحلم طليقاً، وتعود البلاد إلى أصحابها. لا يمكن فهم الكثير من حقيقة بقاء وصمود الشعب الفلسطيني دون فهم هذا الإصرار على التذكر وهذا السعي من اجل عدم النسيان.
لا نريد أن ننسى الماضي لأن في هذه الماضي تسكن أحلامنا، ولأن غياب الماضي هو من أوقع الفارق وانتج مأساة الواقع. الفلسطيني ليس مسكوناً بالماضي لأنه يحب العيش فيه، وربما كثيرون يعشقون العودة له لأن فيه رائحة البلاد، بل هو مسكون بالحلم الذي تعثر على عتبات الفاجعة التي أتت على الماضي وحولت سكانه إلى مآس مختلفة. كل له قصته وكل له روايته عن الألم وعما سببته النكبة له من معاناة. فلكل نكبته الخاصة وكل فرد له حكايته عن النكبة. إنها الحكاية التي تجعل منه مركز الفاجعة. وكل فرد في لحظة وقوع النكبة بات مركز الفاجعة وقلب العاصفة والإعصار. إنها ملحمة البقاء التي تجعل من الناجين أبطالاً لا يقلون بطولة عمن رحلوا في الدرب وهم يبحثون عن حياة مؤقتة حتى يعودوا إلى مواطن أحلامهم. فلا راحل إلا ويرغب بالعودة، فالتهجير القسري لم يكن فعلاً ذاتياً حتى في لحظات البحث عن النجاة. وعليه فإن رحلة البحث عن النجاة أيضاً بقدر طابعها الجمعي فإن ثمة قصصاً فردية في كل منها. فالبحث عن العودة إلى المكان فيها شيء شخصي أيضا. كل له حكايته عن الحلم. الحلم الذي يتشارك فيه الجميع ويسعى خلفه المجموع، يضع كل فرد رأسه وحده على المخدة وهو يسافر عبره. إنها قصص الكفاح المختلفة التي يخوضها الأبطال وهم يسطرون حلمها أو يحاولون الإمساك به. عالم مليء بالحكايات مشبع بالألم والأمل بالشقاء والسعادة، إنه العالم الذي وجد الفلسطيني فيه نفسه بعد المؤامرة الكبرى التي تمت أمام أعين العالم وبتشريع منه. ومع هذا فإن كل حكايات النكبة والنضال من اجل العودة وبالتالي إزالة آثار الفاجعة هي قصص فردية خاصة بكل فلسطيني عاش اللحظة المأساوية أو ولد لمن عاشها او انحدر من أنسالهم. ثمة ألم لا يحتمل في هذا الظلم التاريخي الذي وقع على شعب وجد على هذه الأرض قبل أن يكتشف الإنسان الكتابة.
يقول تولستوي في افتتاحية "آنا كارنينا": العائلات السعيدة سعيدة بطرق متشابهة لكن كل عائلة تعيسة لها طريقتها الخاصة في التعاسة". الميزة الفردية في الحزن والألم، الصورة التي لا تتكرر في قصة المآسي والحكايات التي لا تتشابه بين الناس كلها ترسم صورة سوداء عن الفاجعة الكبيرة. ربما هذا يفسر ثراء الأدب الفلسطيني ومقدرته على تناسل الحكايات. صحيح أن كل امرئ يمكن له أن يكتب رواية واحدة على الأقل. إنها قصة حياته. وهذا افتراض واقعي، لكنه لا يحدث دائماً. ثمة فرص أكبر حين يتعلق الأمر بالواقع الفلسطيني حيث الحكايات التي تتوالد من رحم المعاناة وحيث قصص الخروج القهري والحلم المتجدد الذي لا يموت. إنها لحظة الحياة والموت التي تجعل من الكتابة فرصة للخلود.
لذا لا أحد يريد أن ينسى ولا يوجد من يريد أن ينسى. لأن ثمة حقيقة أبدية أن التذكر ليس نقيضاً للنسيان، بل فيه متعة اكبر ويوفر مساحات أكبر للعمل من أجل تجاوز آثار الألم. كان الإصرار على الذاكرة أحد أبرز الثيمات في الفن والأدب الفلسطينيين حيث كانت دائماً صور الماضي وتجسيده وتحويله إلى حقيقة يومية حاضرة في كل تفاصيل الكتابة والفن الفلسطينيين. ثمة عناد غير مقصود ربما رغم أن العناد هو ذروة التقصد، وهناك حالة من الإمساك بكل تفاصيل ماض حتى لا يمضي حتى يظل حاضراً. لذا فإن الكتابة كما الفن تصبح الفسحة الممكنة بين لحظتين متشابهتين: الماضي الذي يريد الجميع التمسك به وبين المستقبل الذي لا يختلف كثيراً في تصور أصحابه عن لحظاتهم التي داستها عربات الفاجعة.
لذا فإنه يتوجب علينا أن نحافظ على الذاكرة وأن نحافظ على الكتابة والفن كخزان لصونها ونقلها والعبور بها عبر الزمن لا الالتفات إلى أصحاب الحناجر الضالة التي لا تنطق بغير الباطل. الحفاظ على الذاكرة وعلى الوطن حتى يعود لأصحابه بحاجة لنضال حقيقي لا تطاولا على الحكاية الفلسطينية وعلى أصحابها ومن يعبرون بها بحر الزمن حتى تظل خالدة وحتى تعرف الأجيال القادمة أن البلاد لأصحابها. ومن يريد أن يفعل هذا يجب ألا يلتفت كثيراً للوراء لأن ثمة ضلالا كثيرًا في صحراء الجهل التي لا تبنت فيها إلا الأشواك. أتذكر كل ذلك وأنا أتذكر كيف كتبت أول سطر في أول قصة قصيرة حاولت كتابتها ولم أبلغ الخامسة عشرة حين كتبت "لا تريد أن تنسى". لا أعرف ما هو مصير القصة ولا أين هي الآن لكنني اعرف أنني أردتُ أن أتذكّر دائماً ومن يفعل لا يهمه كثيراً أصوات الضلال.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها