يوسف عودة

مثل كل شعوب العالم يحتفل الشعب الفلسطيني باليوم الوطني الذي تكرس مطلع كل عام  في الفاتح من يناير كانون الثاني، ذلك اليوم الذي تعمَّد بدم الشهداء والجرحى والتضحيات الجسام، بالصمود الأسطوري لثورة حملتها أجنحة المناضلين حلماً تجسد واقعاً في سيرورة تاريخية بمندرجاتها في كل محطة سياسية وتماهت مع التكوين النفسي والثقافي والإنساني لشعب الجبارين المتجذر في أرضه والمتمسك بهويته رغم كل مشاريع الإلغاء في المشهد العام وتناقضاته لعملية الصراع ومن جهة ثانية المهادنة التاريخية لأزمة الواقع العربي وجدلية المشروع الوطني العام والخطأ التاريخي باستنساخ هوية اصطناعية في المنطقة وتزوير العائق الجغرافي وتسليم مفاتيح المنطقة وتحويلها إلى ساحة صراع في لعبة الأمم.

لقد كرس الشعب الفلسطيني يومه الوطني بانطلاق ثورته المعاصرة بقيادة حركة فتح في 1/1/1965 باعتبارها ضرورة وطنية واستجابة لحركة الوعي الذي حافظ على الهوية الوطنية الفلسطيني رغم تشتت الوطنية الفلسطينية ومحاولات إلهائها في الصراع الفكري لحالة مشروع التحرر الوطني والتماهي مع متطلبات المرحلة التاريخية بين التحرر الوطني والخلاص من التبعية والوصاية.

 

لقد أثبتت انطلاقة فتح الأولى عن ماهية الصراع وأولوياته في أجندة المنطقة باستمرار وهج المد القومي والنفوس المشحونة للخلاص والتحرر الوطني الناجز امتداداً لحركة التحرر العربية التي اصطدمت بالبنى الفاسدة تخلفاً وجهلاً وفقراً لأنظمة استلمت مقاليد السلطة على طبق من فضة، وتكونت هويات ذات بعد سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي يتنافى مع الآخر على خلفية مصلحة كل نظام أو سلطة حاكمة.. وفي المقلب الآخر وربما كان من طالع الحظ أن تأتي نكسة الخامس من حزيران عام 1967 منطلقاً لشحنة ثورية دفعت باتجاه اعطاء انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة فتح رخصة شرعية لاستعادة الكرامة المستباحة لأمة مهزومة وأنظمة وجدت في المقاومة الفلسطينية ضالتها لستر عيوبها أمام شعوبها التي تم تهميشها واستبعادها في عملية الصراع حين سلبت حريتها وحقوقها وامتهنت حرية الإنسان وممارسة القمع والظلم والبطالة والتخلف والجهل وإغراقه في مستنقع التناقضات لهويات مختلفة يريدها في وضع أولويات الصراع الحقيقي مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يشكل بوابة الحل الجذري لكل مشكلات العرب.

واجهت فتح منذ انطلاقتها تحديات كثيرة، وفي نفس الوقت أدركت حجم المسؤولية التي تستعملها في المشهدين العربي والدولي، كما كانت تعي تماماً أن النضال الوطني الفلسطيني عبر رافعته الكفاح المسلح لابد وأن يواكبه في خطٍ متوازن نضال سياسي لا يقل أهمية عن ممارسة الثورة. فالعمل العسكري مهمته أن يزرع، والعمل السياسي يقطف في مواسم الحصاد. وان المعركة السياسية بأبعادها المختلفة هي الأصعب لأن مهمتها ترسيخ الهوية الوطنية في الزمان والمكان واستعادة الجغرافية السياسية الفلسطينية على الخارطة الدولية التي غيبت بإلغاء الدور الفلسطيني منذ النكبة وأبعاده عن المشاركة الفعلية ومصادرة قراره السياسي.

قدمت فتح نفسها كحركة تحرر وطني بمواصفاتها التاريخية وتشكلها البنيوي العام في ساحة أيديولوجية تتجاذبها الصراعات والشعارات ومفاهيم القومية والقطرية والدينية، ومن جهة ثانية محاصرتها واتهامها بالتوريط والتوقيت والانفراد والغموض، لكنها استطاعت بحركتها الثورية وابتعدت عن كل الحرائق الجانبية وأن المحك الرئيسي النضال على أرض فلسطين حيث العدو ميزان بين الشعرات الوهمية والممارسة الوطنية.

شكلت الفكرة التي حملتها حركة فتح الولادة الأولى الضرورية على قاعدة الشروط التاريخية التي تؤسس لنهضة جديدة وفكر وطني جديد، فهي ليست حزباً بمفهومة الشمولي، ولا مماثلة لكل الحركات التي سبقتها بأشكال مختلفة، كانت ولادة نمط جديد لحالة ثورية وإيجاد المزج لعجز النظام الرسمي واغترابه عن القضية الفلسطينية وتقصير النخب عن دورها الحقيقي في معركة التحرر الوطني وتحرير فلسطين، وأثبتت المبادئ والمنطلقات والأهداف ووضوح الإستراتيجية في إطارها التاريخي وممارساتها الميدانية بعيداً من التبعية والألحاق وعدم التدخل بالشؤون العربية صوابية الفكر الجديد مما دفع بالفكرة إلى تلقفها وانتشارها كالنار في الهشيم والانتقال من مرحلة إلى أخرى وتراكم الانجازات والانتصارات والتي توجت باعتراف العالم بدولة فلسطين تحت الاحتلال عبر آلية التحرر الوطني كمنطق للتاريخ وحقائق الجغرافيا.

فتح والعملية السياسية

استندت حركة فتح منذ بدايات التأسيس والانطلاقة إلى التسلح بالفكر السياسي كدليل نظري يسير ويواكب المراحل السياسية والتحولات في كل محطة نضالية، ومن يقرأ نشراتها وأدبياتها الأولى لن يفاجأ بأن نظريتها الثورية وسماتها الوطنية لم تتبدل في جوهرها ومضمونها، والعملية السياسية تمّت بدينامية وبراغماتية متماهية مع المناخ السياسي العام استجابة للمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.

بما أنها حركة وطنية ثورية أكدت فتح على محددات الصراع الوطني ضد احتلال استيطاني كولونيالي يمثل النقيض بكل مكوناته ونسيجه، وفكر وهمي صنع من المثيولوجيا الدينية الخرافية، وأريد له أن يكون مروّعاً يحمل في ثناياه تدمير المفاهيم الإنسانية وتخريب الثقافة والحضارة وتغليب القوة على الحق والسيف على المنطق وإلغاء الآخر وبؤرة للفوضى الدائمة.

لقد كثر الجدل بين مختلف القوى السياسية والفلسطينية حين بدأت تطرح العملية السياسية مواكبة مع التحولات والمتغيرات الإقليمية والدولية وتأثيراتها على مسيرة النضال الفلسطيني، فقد أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وعضواً مراقباً في الأمم المتحدة، عام 1974 وحيث تأسست مرحلة جديدة وجدت الثورة الفلسطينية نفسها في مواجهة مع مشروع شطبها على الساحة اللبنانية عام 1975 وإنهاء دورها في حركة الصراع وسلبها القرار الفلسطيني المستقل.. وفي المقابل كان يتشكل نظام العولمة المؤمرك بعد تفكيك المنظومة الاشتراكية وانهاء الاتحاد السوفياتي، نظام العولمة الجديد الذي يبتلع الهويات التاريخية وتحويلها إلى سلع في سوقه الكونية، ويسعى إلى تغيير العالم وتحت قبضته إدارة واقتصاداً، لقد فشلت سياسة الترويض والتدجين فيما رفضت الثورة الفلسطينية الانخراط في مشاريع البدائل والتسويات المعلبة، ولكنها لم تخرج من دائرة الفعل السياسي بحضور منهجي واقعي على ضوء التجربة النضالية ومعطيات اللحظة التاريخية وشروط البرنامج الوطني العام وطبيعة الظروف الذاتية والموضوعية.

في 27/9/2012 كان يوماً فلسطينياً بامتياز، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة يطلب عضوية فلسطين حيث اعترفت بها مائة وثمانية وثلاثون دولة تمثل الإرادة الدولية وهي تعبير أيضاً عن النضال السياسي الفلسطيني وتكريس الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية عكس ما تشتهي إسرائيل بالخداع والتضليل لإنهاء فكرة الدولتين وإنجاز التسوية التاريخية في منطقة مضطربة وملتهبة، وكما قال الرئيس محمود عباس في خطابه التاريخي لن نسمح بنكبة جديدة وأن الشعب الفلسطيني سيواصل ملحمة صموده وبقائه الأبدي فوق أرضه. ومخاطباً الجميع لينتصر السلام قبل فوات الأوان.

الحضور السياسي الفلسطيني وإبداعاته وضع الاحتلال الإسرائيلي ومشروعه في دائرة أزمته الوجودية والهوية التي لم ولن يجدها فوق الأرض أو تحتها، مولود خارج سياق التاريخ وحاضنته الجغرافيا في ملامحه وسماته وتكويناته ودوره الذي يتنافى في وظيفته مع الحقائق، لا يرتبط بالأرض ومنطق العلاقة الجدلية وفي عالم لا يقبل إلا الحقيقة. والكون الذي لا يستقيم إلا في معادلة توازناته..