في الوقت الذي يعمل الاحتلال الإسرائيلي بكل قوته وجبروته لحسم الأطماع الإسرائيلية مع الفلسطينيين، وهي التي تشن حرب الإبادة، والتهجير والتجويع والتعطيش، وتحاول جاهدة أن تنهي كل مظاهر الحياة في قطاع غزة، هي اليوم تعمل على إشعال الضفة الغربية لاستكمال مخططها العدواني في التوسع والضم والمشروع الاستيطاني وتضرب الحصار والخناق على المدن والقرى والمخيمات والبادية الفلسطينية وذلك لفرض الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين مما يترك آثارًا لها تداعيتها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولعل أخطر تلك التحديات هو ما يقوم به الاحتلال من محاولة لمسح تام للتاريخ الفلسطيني على أرض فلسطين، ومحاولة أن ينسب ذلك الإرث التاريخي والثقافي لليهود على هذه الأرض. كل هذه التحديات وأخرى تهدد المشروع الوطني الفلسطيني، بل وتهدد الوجود الفلسطيني برمته. لقد بدت على السطح السياسي في الملف الفلسطيني وباتت تشكل تحديات كبيرة وعبئًا ثقيلاً له تداعياته الكبيرة والمؤثرة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

الجرح الفلسطيني أعمق من أن يتصوره أي شخص، بل إن القضية الفلسطينية باتت مثخنة بالجراح، والتي من أسبابها الاحتلال الإسرائيلي والتقاعس الدولي، ومحاولة البعض العبث في الجبهة الداخلية للشعب الفلسطيني وهو الأخطر، والخطر الداعم للقضية الفلسطينية ومسارها. الأخطار اليوم تلوح في الأفق القريب وليس البعيد. لأن الهجمة الصهيونية وأدواتها أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني في مواجهتها. تتجند في هذه الجبهة أكبر قوة مهيمنة في العالم، وأدوات محلية وعربية ودولية وصمت عالمي في الجهة المقابلة.

إن تفرد إسرائيل في الساحة الفلسطينية، بعد أن ضمنت حياد أهم الجبهات العربية في مصر والأردن وانشغال سوريا لأكثر من عشر سنوات في الحرب الداخلية، واحتلال العراق من قبل القوات الأميركية، استطاعت إسرائيل أن تخترق المبادرة العربية للسلام من حالة الاجماع العربي إلى إقامة علاقات وتطبيع أحادية مع العديد من الدول العربية كل على حدى مما ترك بصماته على مسار القضية الفلسطينية. 

اليوم ومع المضي قدمًا من أجل بناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ورعاية منظمة التحرير الفلسطينية من خلال السلطة الوطنية الفلسطينية للشأن العام الفلسطيني محليًا ودوليًا، وتحقيق انجازات مهمة في تعزيز الهوية الفلسطينية ووجوده على أرضه، ومقارعة الاستيطان الذي يهدد الوجود الفلسطيني، نجد اليوم أنفسنا أمام تحديات جديدة بسبب التداخلات الإقليمية ومحاولة السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني لأسباب لا علاقة لها بقضايا الشعب الفلسطيني. فاتسعت دائرة الذين يوجهون سهامهم إلى "م.ت.ف" وإلى السلطة الفلسطينية، وقد خرج الأمر عن المألوف إذ وجه الرصاص إلى مقرات وعناصر الأمن الفلسطيني، الذين يقدمون خدمتهم إلى الشعب الفلسطيني لضمان الأمن الداخلي وسلامة وأمن المؤسسات الفلسطينية العامة والممتلكات الخاصة. يجب أن لا ننكر ولو لحظة واحدة التأثير السلبي الكبير على القضية الفلسطينية، وتعثر مسارتها بسبب الانقسام الذي حدث في 2007، واختطفت حركة الإخوان المسلمين ممثلاً بحركة حماس قطاع غزة، والذي هو قائم إلى الآن.

دوائر العمل الدولية التي أنشأها الاحتلال الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية بعضها محلي وإقليمي ودولي، عززت أدوات الفتنة لتعمل على إسقاط من ترى فيه إسرائيل أخطر أعدائها السياسين وهي السلطة الوطنية الفلسطينية. لماذا تعمل إسرائيل على إسقاط السلطة الفلسطينية؟ لسبب بسيط أنها غير قادرة على تمرير مشروعها التصفوي للقضية الفلسطينية من خلال هذه السلطة والتي ندمت أشد الندم على توقيع اتفاق أوسلو وإن كان هزيلاً إلا أنه يقف حائلاً في تصفية القضية الفلسطينية اليوم. السلطة الفلسطينية هي مشروع فلسطيني بكل ما تعنيه الكلمة لخدمة الشعب الفلسطيني ونواة تأسيس الدولة الفلسطينية. لذا عملت إسرائيل على تحييدها وضرب منظومتها لإنهاء وجودها. وهي الآن تجند كل طاقاتها وعلاقاتها ومعها كل المتآمرين ومن قنوات فضائية أو منصات إعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي توسيع دائرة الفتنة للانقضاض على هذه السلطة العتيدة.

وهذه الأدوات جيش مساند لجيش الاحتلال الإسرائيلي وتحت مسميات مختلفة بجهوزيتها للانطلاق لحظة تلقي إشارات في البدء في التمرد وقد تلقتها بالفعل لتسمع التغريدات بكافة أشكالها وألوانها، وتتعدد السينوريهات في سبيل الأهداف المرجوة تحقيقها. لقد أحدثت هذه الوسائل حالة من الجدل المقزز واسعة النطاق في الأوساط المحلية والإقليمية حول الواقع الفلسطيني.

معركة الاحتلال في الضفة الغربية حسب كل المؤشرات توحي بأنها قد بدأت، وبالفعل هي بدأت قبل السابع من اكتوبر 2023 والذي تلاه حرب الإبادة على غزة. ولأن هذه الحرب على الضفة الغربية ستأخذ مسارها وفق الخطط الإسرائيلية والمضي قدمًا في تقليص عدد السكان فيها بمعنى التهجير والبدء في عمليات الضم مع دخول الرئيس الأميركي ترمب البيت الأبيض، فإن ذلك يحتاج إلى دوافع مقنعة للرأي العام الدولي للقيام بعمليات عسكرية واسعة برية وجوية لتنفيذ المخطط الاحتلالي، لذلك سمحت إسرائيل بدخول التمويل الدولي والسلاح، الذي يتكون من المسدسات والبنادق الآلية. طبعًا الذي مصدره إسرائيل لأن التهريب عبر الحدود أمر معقد للغاية وإسرائيل بما لديها من تقنيات عالية تستطيع مراقبة الحدود والحد من محاولات التهريب. وبما أن الهدف هو مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الرمز الفلسطيني لعنوان اللجوء فإن أولى أهداف الاحتلال الإسرائيلي التخلص من هذه المخيمات ولن يتم ذلك إلا من خلال تحويل هذه المخيمات إلى ميدان للقتال، لتبدء مناوراتها في ملاحقة المسلحين الفلسطينيين الذين يتخذون من هذه المخيمات وقرى شمال الضفة الغربية مركزًا لهم، وهذا هو العنوان الذي وضعته إسرائيل في معركتها لإنهاء مظاهر اللجوء الفلسطيني، الذي هو عنوان القضية الفلسطينية.

لأن المقاومة الفلسطينية شيء مهم وأساس في دحر الاحتلال، فإن الواقع الفلسطيني محكوم بشكل هذه المقاومة وبرنامجها المقاوم، من خلال المقاومة الشعبية أسلوبًا ووسيلة لإنهاء هذا الاحتلال، وقد أكد على أساسيات المقاومة الشعبية ودعمها السيد الرئيس محمود عباس بشكل واسع من أجل مناهضة وإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية. والسبب في دعم المقاومة الشعبية هو أجل تحييد الاحتلال في ارتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني.  لقد قدم الشعب الفلسطيني عشرات الشهداء والجرحى والأسرى أثناء المقاومة الشعبية للاحتلال وعبر المسيرات التي انطلقت وما زالت مستمرة ضد الاستيطان والاحتلال، وكان الشهيد الوزير زياد أبو عين أيقونة شهداء المقاومة الشعبية الذي استشهد وهو بين المزارعين الفلسطينيين يزرعون أشجار الزيتون، وكانت عهد التميمي الطفلة الفلسطينية التي جسدت روح المقاومة الشعبية على أرض الشهداء "فلسطين"، وغيرها من الأماكن التي تشهد المسيرات المناهضة للاحتلال.

الاحتلال الإسرائيلي لا يكترث باستعمال القوة المفرطة في أوساط الشعب الفلسطيني المسالم وأدخل في ملاحقة المسلحين طائرات F16، والطائرات المسيرة، والصواريخ المحمولة على الكتف، من الأسلحة الفتاكة. ولا يجد الإسرائيليون حرجًا في توجيه ضرباتهم الموجعة لقتل مقاوم أو مطلوب أمني لها إن كان في مقهى أو تجمع سكني وحوله العشرات من المواطنين الآمنين، لتصيب وتقتل من كان في محيط ذلك الموقع المطلوب. وليس هذا فحسب إنما تعمل من خلال استعمالها للبلدوزر المرافقة D9, D10 للحملات الأمنية وجرف الشوارع وأنابيب الصرف الصحي وأنابيب المياه، على خلق بيئة طاردة للحياة من أجل تهجير السكان.

 هذا الواقع الأليم الذي نعيشه، يمكن ألا نجده في الأيام القادمة لأن الإجراءات الاحتلالية، ليست لإرضائنا ولا تعمل على ذلك، هي ستعمل بكل قوة وهذا القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء الإسرائيلي لاستعمال القوة المفرطة ولن تبرر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في ملاحقة أي مطلوب لها. وستلقي على قارعة الطريق الجثث كما هو الحال في غزة. 

الجرح عميق وإذا الخيل لم تشكو جرحًا وألمًا ألم بها، فالخيال وإن علم بجرحها لا يمكن له أن يداويها لعمق جرحها. المرحلة الآن تتطلب من الحكماء الحكمة. ونفترض حسن النوايا فنقول لا تكونوا أنتم ممن يسيئون للقضية والشعب من حيث لا تدرون، وتتم تصفية ما تبقى من قضية على أيديكم. يقول الله تعالى: "وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ". صدق الله العظيم.