شرك استراتيجي

شلل سياسي يجر شللا عسكريا

الجريمة النكراء التي ارتكبها ارهابيون غزيون استدعت ردا عسكريا مناسبا – قاسيا وأليما – تجاه حماس وعلائم حكمها، وذلك لان حكومة حماس في غزة هي التي تتحمل المسؤولية عن العملية الوحشية والمتحدية. التفسير الاسرائيلي – الذي يتلوى في تفاصيل تعريف المنظمات المعربدة في غزة – كم هي حماس غير "مسؤولة" عما حصل، بعيد عن الاقناع؛ واضح جدا انعدام الرغبة في الرد على حكومة حماس كما تستحق. فلا أهمية للهوية الدقيقة للعصابة التي ينتمي اليها الوحوش البشرية المجرمة؛ حماس هي الحكم الفاعل في غزة؛ وهي تعرف، أو يفترض بها أن تعرف، أمر الجريمة المخطط لها. وهي تتحمل المسؤولية وملزمة بان تقدم الحساب على ذلك.

هذا لم يحصل.

لنعترف بالحقيقة: اسرائيل تخشى المس بحماس. مثل هذا المس، كما اعترف باستقامة وزير الدفاع في مقابلة مع القناة الثانية، هو مثابة "شرك استراتيجي" لاسرائيل.

ايهود باراك كان محقا: الجمود السياسي في القناة الاسرائيلية – الفلسطينية أدى الى تدهور العلاقات مع معظم دول العالم. النزاع الذي لا يعالج – وعلى أي حال لا يسوى – هو الذريعة التركية والمصرية لتفاقم العلاقات مع اسرائيل. اسرائيل تفهم بان خطوة عسكرية أليمة في غزة – كما تستحق حماس – من شأنها أن تؤدي الى خطوة مصرية وتركية متطرفة في شدتها، وتشجيع دول في العالم على تأييد المبادرة الفلسطينية في الأمم المتحدة.

تركيا، مصر ودول اخرى تعرف جيدا الواقع الذي علقت فيه اسرائيل: فهي تشعر بوهن موقفها في العالم، وتقدم على أي حال بانه عندما تنزل على اسرائيل، باستثناء الولايات المتحدة – التي قوتها أيضا، لشدة الاسف، وهنت بقدر كبير – فان احدا لن ينهض للمساعدة والتأييد للدولة المسببة للضرر، عن حق شديد للساعين الى نزع روحها. يخيل أن همس "الاحتجاج" العالمي، الضعيف والواهن، على عملية القتل النكراء، يؤيد هو ايضا الاستنتاج البشع بان عملية اسرائيلية في غزة لن تحظى بالتصفيق. وبالفعل هذا "شرك استراتيجي" تملصت منه الحكومة بنجاح، ولكن امتنعت ايضا عن محاسبة القتلة أبناء الموت.

منذ الأزل اشترطت القوة العسكرية لاسرائيل بقدرتها السياسية على العمل: قوتها هي ليس فقط في نوعية سلاحها وكميته، بل بطول "الحبل السياسي" لتفعيله. ما العمل، ولكن موقفنا السياسي في العالم يتقرر فقط حسب ما يجري في القناة الاسرائيلية – الفلسطينية؛ خيرا كان أم شرا – هذا هو الموضوع الاساسي الذي بين اسرائيل وأمم العالم.

انعدام الفعل السياسي للحكومة الحالية في السياق الفلسطيني قصر الحبل جدا. حكومة اولمرت بادرت الى خطوتين عسكريتين واسعتين وموضع خلاف؛ الرد الدولي – بما في ذلك المتحفظ أيضا – على تلك الخطوتين كان معتدلا للغاية وذلك لانه الى جانب نار المدافع وجدت مبادرة سياسية ذات مغزى. اليوم، في صفر الفعل السياسي، كل رصاصة تطلقها اسرائيل تثير جلبة عالمية.

بالفعل، هذا شرك استراتيجي: شلل سياسي يجر بالتدريج الى شلل عسكري.

 

فرصة ليبيا: التحطم أو دولة ديمقراطية

(المضمون: اذا ما تفتتت ليبيا الى أجزائها بعد النصر الكبير على القذافي، يمكن للاسد أن يكسب "زمنا نوعيا" على متظاهريه، دون خوف من تدخل دولي).

الخطاب الشعري لمعمر القذافي الذي دعا فيه مواطني ليبيا "لتطهير الدولة من الخونة، بيت بيت، دار دار، زنغة زنغة" قد يكون الارث للخطاب الأكثر شعبية الذي خلفه وراءه. فقد اصبح هذا الخطاب شهيرا يتم تناقله في مواقع الفيس بوك واليو تيوب. مطاعم ومنتجو مشروبات خفيفة سارعوا الى تسمية وجباتهم ومنتجاتهم "زنغة زنغة" وخلدها الهريمكس الاسرائيلي في قصر المجد.

ولكن "زنغة زنغة" إياها ستعرف الان الواقع السياسي والعسكري في ليبيا بعد سقوطها النهائي. ليبيا هي فسيفساء قبلية، عرقية، ثقافية وسياسية، حتى القذافي اضطر الى التساوم معها، رشوة زعمائها والتعويل على تقاسم القوة مع قبيلته كي يقيم "جماهيريته" – ذاك المخلوق السياسي من اختراع القذافي الذي لا مثيل له في دول اخرى. "الثوار"، هذا التعبير الشامل الذي يقدمه معارضو القذافي كهيئة منسجمة ظاهرا، نجحت بمعونة الدول الغربية في اسقاط نظام القذافي – حتى وان كان هو لا يزال حيا – أظهرت هذا الاسبوع انقساماتها. فضد زعيم "الحكومة الانتقالية الوطنية"، مصطفى عبدالجليل، الذي القى أمس خطابا مطولا عن الحاجة الى الوحدة، الديمقراطية والشفافية، ثارت منذ الان شكاوى شديدة، ضمن امور اخرى بسبب دوره في المس بالمواطنين عندما كان وزير العدل تحت القذافي.

قوات الثوار الذين هاجموا طرابلس من الغرب، والذين كانوا اكثر تنظيما وانضباطا من القوات التي جاءت من الشرق، بدأوا بالمطالبة بنصيبهم في الحكم الجديد الذي لم ينشأ بعد، ومن شأنهم أن يعارضوا صلاحيات "الثوار من بنغازي". الصراع السياسي بدأ فقط والخصوم فيه يملكون جيوشا خاصة، مزودة بسلاح ثقيل، ووحدوا القوى على شرف الثورة. ولكن هذه ايضا هي قوى من شأنها فورا أن تتفجر الواحدة ضد الاخرى في الصراع على الحكم. رغم أن هؤلاء الخصوم لا يمثلون بالضرورة ايديولوجيات مختلفة – مع أن هذه موجودة ايضا – بل سكانا متميزين، لكل مجموعة منها يوجد حساب خاص بها، سواء مع نظام القذافي أم مع جماعات الخصوم الاخرى. وحسب التقديرات، نحو 5 مليون من أصل نحو 6.5 مليون من سكان ليبيا (بينهم نحو 1.5 مليون مهاجر) يوحدون نحو 140 قبيلة، منها نحو 30 ذات قوة ونفوذ سياسي. الامتناع القبيلي هو موضوع تقليدي، ولكنه يقرر مصير ومكانة ابن القبيلة والقبيلة بشكل عام. القبائل الكبرى المعروفة أكثر الى جانب قبيلة القذافي هي: قبيلة مسراطة التي تسيطر في القسم الشرقي من الدولة؛ قبائل كرغالة، تواجير ورملة في الوسط، وابناء قبائل ابو هلال في الغرب. ولكن هذه القبائل ايضا لا تتشكل من مادة واحدة. بعضها هجرت نمط الحياة التقليدية وبعضها لا يزال يتمسك به في ظل الخصومة مع الاخرين، ولم نقل بعد شيئا عن الخصومة بين البربر والعرب.

"توزيع الغنائم" السياسية في ليبيا سيتعين عليه ان يراعي المبنى الديمغرافي للدولة كي يمنع حربا أهلية طويلة، مثلما حصل في العراق. ولكن هذا التطلع يحتاج الى زعيم كريزماتي وذي صلاحية، تكون في يده ايضا قوة مناسبة لفرض الموقف. زعيم كهذا لم يولد بعد في الثورة الشعبية الليبية وكذا "قوة الفرص" هي تعبير نظري: عن الهيئة السياسية التي ستدير ليبيا في الفترة القريبة القادمة أن تقرر موقفا بالنسبة للجيش والشرطة اللذين كانا يخضعان للقذافي ويوجد معهما حساب دموي طويل، سواء على عدد القتلى في الثورة، الذي يقدر بنحو 15 – 20 ألف شخص أم على 42 سنة حكم فيها القذافي بيد من حديد.

هذا جيش صغير، نحو 50 الف جندي، بين نظامي واحتياط، معظم قادته ينتمون الى قبيلة القذافي او القبائل التي أيدته. سفير ليبيا في واشنطن، علي سليمان العجيلي، وان كان واثقا من أن الحكومة الانتقالية الوطنية ستنجح في ادارة الشؤون العسكرية – لديها وزير دفاع ومجلس عسكري – ولكن في هذه الاثناء لا يوجد يقين في أن وزير الظل الحالي سيواصل مهامه بعد النصر.

وللشكل الذي ستدار فيه عملية نقل السلطة في ليبيا سيكون أيضا تأثير كبير على الطريقة التي سيتصرف فيها رئيسا سوريا واليمن، وعلى قرارات دول الغرب في مسألة التدخل العسكري الممكن في سوريا. سبعة اشهر الثورة في الشرق الاوسط تفيد بان استقالة الزعماء ليست مرضا معديا. في تونس الزعيم فر، في مصر – استقال، في ليبيا قاتل حتى آخر زنغة له وفي سوريا لا يعتزم على الاطلاق التنازل. اذا ما تفتتت ليبيا الى أجزائها بعد النصر الكبير على القذافي، يمكن للاسد أن يكسب "زمنا نوعيا" على متظاهريه، دون خوف من تدخل دولي. ولكن هذا لم يعد بمسؤولية الليبيين.

 

عن الأبهة لا يفصل غير الموت

 (المضمون: من يتمنى أن يرى في دمشق نهاية مشابهة لتلك التي عُرضت في طرابلس سيضطر الى ان يكتب لحبكة القصة نهاية اخرى).

قبل ان تبدأ بريطانيا بالاحتفال بسقوط معمر القذافي، وكأنه نصرها الخاص، تذكر في نهاية الاسبوع وزير الخارجية السابق ديفيد أون اللحظة التي تمر عليه كلاعب ثانوي على مسرح العالم، في نهاية السبعينيات. أون، الذي شجع تنزانيا على اجتياح اوغندا والعمل على الاطاحة بحاكمها ايدي امين، أثنى على قرار السعودية في حينه منح امين ملجأ سياسيا. لو لم يكن لديه هذا المخرج، لكان امين أدار معركة يائسة، للحياة أو الموت – وليس فقط موته هو.

وجاءت هذه الاقوال في السياق الفوري لليبيا وقريبا بسوريا. الايام الاخيرة للقذافي في الحكم والطوق الذي يشتد  – وإن لم يكن بسرعة الاختناق – حول رقبة بشار الاسد جددت الجدال القديم: هل يجدر العفو عن طغاة وحشيين والسماح لهم بالفرار الى بلاد اخرى لاعفاء بلدانهم من مزيد من القتل والدمار في مراحل الذروة للثورة ضدهم.

رغم تشكيل المحكمة العالمية، كاستمرار فكري للمحاكمات التي عُقدت لكبار المسؤولين الالمان واليابانيين الذين اتهموا بجرائم الحرب، فان المسألة ليست قانونية. فالمنفعة تترجم بعرض العفو. صدام حسين، في 1991، وبقوة أكبر في 2003، رفض التقاعد في منتجعه في القاهرة وذلك على فرض أن بلد اللجوء، مثل الاستعداد السعودي لاستضافة امين، خلافا لغضب نظام الثورة الاسلامية في ايران مع فرار الشاه من طهران، ما كان  ليخشى عداء الحكام الجدد في بغداد.

صيغة التقاعد بسيطة وساذجة. الحاكم يتخلى عن استمرار صراعه، والشعب الذي ثار ضده، أو القوة الخارجية التي أسقطته، تتنازل بالمقابل عن معاقبته بشدة. عمليا، ستُفرض عليه اقامة جبرية خارج الوطن أو اقامة في فيلا وضحاياه في الأمس أو أهاليهم واصدقائهم ممن يسعون الى التخلص منه، سيتجلدون. مشاعر الأفراد تُعطل أمام مصلحة الأمة التي تبرر المصالحة والتخلي عن تصفية الحسابات على نمط "لجان الحقيقة والمصالحة" التي شكلها نلسون مانديلا في جنوب افريقيا بعد انهيار نظام الابرتهايد.

مهما كانت ساحرة الفكرة للآذان الغربية، فليس لها أمل كبير في التحقق عند انهيار انظمة الطغيان. فللطغاة يوجد، ظاهرا، كل شيء، ولكن ليس لهم تقاعد (ولا راحة بال). من الأبهة لا يتحرر المرء إلا بالموت. واذا كان على الرئاسة الامريكية قال أحد الفائزين بها "وظيفة رائعة مع علة واحدة – لا يوجد بعدها ترفيع"، فلدى الرؤساء الذين يُعينون أنفسهم فان النزول عن القمة صعب تقريبا مثل الوصول اليها.

الحكام الجدد لن يتحرروا أبدا من الاشتباه بأن الحاكم المطاح به سيبقى بؤرة قوة منافسة ومتآمرة من مسافات بعيدة لتنفيذ انقلاب مضاد والعودة الى الحكم. وهم سيرغبون بوضع حد سريع للقضية. هذا ما حصل في معظم الثورات في الدول العربية. ولا حاجة لأن يكون المرء عربيا – وتشهد على ذلك نهاية نيكلاي تشاوتشيسكو – أو أي طاغية. في الحرب العالمية الثانية اشتُبه بالدوق من فنزور الذي هو الملك ادوارد الثامن بعد أن اضطر الى التخلي عن تاجه، بالعطف على المانيا لدرجة امكانية أن يعتمر في أعقاب اجتياح واحتلال الجزر البريطانية تاجه مرة اخرى تحت رعايتهم.

اقامة نادي للطغاة المتقاعدين في موقع معزول، مثل جزيرة الاشباح، أو كبديل دمجهم بخفاء مدني في محيط اجنبي، ليس عمليا. خلفاؤهم سيبعثون اليهم برجال الاغتيال، وهم أنفسهم سيحلمون ويتآمرون دون انقطاع للعودة الى الحكم الذي فقدوه.

هكذا على نحو خاص عندما لا يكون الحديث يدور عن فرد بل عن مجموعة، عصبة، طائفة، قبيلة. نهاية القذافي من شأنها ألا تردع بشار بل أن تحفزه على أن يرص حوله العلويين الذين يعرفون بأن سقوطه سيكون سقوطهم ايضا. من يتمنى أن يرى في دمشق نهاية مشابهة لتلك التي عُرضت في طرابلس سيضطر الى ان يكتب لحبكة القصة نهاية اخرى.

 

رسالة قاطعة من طرابلس الى دمشق

 (المضمون: سقوط القذافي يبعث الامل في قلوب السوريين الذين يؤمنون بانه حان الان دور بشار).

المشاركون في المظاهرة الليلية التي انطلقت أول أمس في شوارع مدينة الزبداني في ضواحي العاصمة دمشق، استوعبوا بسرعة الوضع الجديد في ليبيا. "سوريا لا تخاف، بشار التالي في الدور"، هتف المتظاهرون. "القذافي طار، طار. والان دورك يا بشار". الشعار الجديد، الذي انتشر في سوريا بسرعة شهد على أن سقوط القذافي يعطي ريح اسناد ايضا لمعارضي نظام الاسد، الذين يأملون في أن تكون بلادهم بالفعل هي التالية في الدور، بعد تونس، مصر وليبيا.

صفحة الفيس بوك الرسمية للمعارضة السورية، التي تنسق مظاهرات الاحتجاج ضد الاسد، هنأت بحرارة الشعب الليبي على اسقاط القذافي. "الشعوب العربية حققت نصرا وانجازا جديدا رغم عدم ايمان المشككين"، كتب مدراء الصفحة. "الارض الليبية انغمرت بدم شبابها. نحن ندعو شباب الثورة في سوريا الى مواصلة سفك دمائهم. لحظة النصر قريبة. والحسم سيكون لكم".

الاحتجاج السوري، الذي بدأ بعد نحو شهر من المظاهرات في شوارع ليبيا، جبا منذ الان حياة أكثر من 2000 شخص. قوات الاسد - الجيش، اجهزة المخابرات وميليشيات حزب البعث – رفعت بالتدريج مستوى العنف. في الاسابيع الاخيرة يستخدم بشار الدبابات، المروحيات بل وحتى سفن الصواريخ لقمع الثورة ضده. وأمس ايضا قتل ما لا يقل عن سبعة اشخاص في مدينة حمص. ودفاعا عن نفسه يدعي النظام السوري بانه يقاتل ضد عصابات ارهابية مسلحة.

مثل الوضع في ليبيا، بدأت المعارضة السورية ايضا طريقها وهي منقسمة وضعيفة. أمس بذلت محاولة لتعزيز صفوفها وذلك لعرض بديل عن نظام الاسد. بعد ثلاثة ايام من المداولات في اسطنبول، أعلن رجال المعارضة عن تشكيل "مجلس انتقالي". في الهيئة الجديدة ستكون المجموعات السياسية المعارضة للاسد، بمن فيهم الاخوان المسلمون ايضا. "هدفنا هو ان نصبح صوت الثورة السورية والمساعدة في تشديد الضغط على نظام الاسد"، قال ياسر طبارة، رجل المعارضة السوري.

من الجهة الاخرى، في اوساط النشطاء الميدانيين، تنطلق اصوات جديدة تنتقد التكتيك غير العنيف الذي اختير لاسقاط سلالة الاسد. "القذافي مر من الثوار عندما هاجموا طرابلس"، كتبت احدى المتظاهرات على صفحة فيس بوك للثورة السورية، "ولكن ممَ سيهرب بشار؟ من الناس الذين يصفقون وينشدون؟ اذا واصلتم الطرق السلمية، سيبقى بشار في الحكم لعشر سنوات اخرى".

اما مشارك آخر فأشار الى ان المتظاهرين السوريين لا يمكنهم أن يشبهوا أنفسهم بالثوار الليبيين. فقد كتب يقول: "لقد رفعوا سلاحهم وقاتلوا كالرجال. اما أنتم فتصرخون وتتحدثون كالنساء".

وبالفعل، خلافا لليبيا، حيث تدهورت المظاهرات بسرعة الى حرب أهلية، في سوريا النظام وحده هو الذي يطلق النار. الجيش يصمد ويواصل تنفيذ أوامر بشار. الفرار حتى الان كان طفيفا، ولا يمكن الحديث عن انتقال وحدات عسكرية كاملة الى جانب الثوار، مثلما حصل في ليبيا.

فارق آخر هو في موقف الاسرة الدولية. الدول الغربية، وبعض من دول الخليج وتركيا ايضا انتقدت بشدة الاسد ودعته الى الرحيل. ومع ذلك، فاحد لا يتحدث في هذه اللحظة عن استخدام القوة العسكرية او ادخال الناتو الى المعركة. ومثل المعارضة الليبية فان المعارضة السورية هي ايضا، كما ينبغي القول، تعارض تماما التدخل الخارجي خشية أن "يصمها" الامر فيخدم مصلحة الاسد. منذ اندلاع المظاهرات ادعى الاسد بان الولايات المتحدة واسرائيل تقفان خلف المؤامرة لاسقاط نظامه.

رغم ذلك، فان سقوط القذافي يبعث الأمل في قلوب السوريين الذين يؤمنون بانه حان الان دور بشار. "طالما صمد القذافي، تواسى النظام السوري بفكرة انه يمكن ان يفعل كل ما يروق له، دون أن يخشى الأسرة الدولية التي كانت منشغلة في ليبيا"، يقول مصدر سوري معارض في دمشق. "الان، عندما انتهى القذافي، ستكون سوريا في بؤرة "الربيع العربي" والضغط الدولي. اعتبارات النظام السوري ينبغي ان تتغير. وعلى الاسد أن يخشى، فالنهاية آخذة في الاقتراب".

 

تاريخ الجنون: وداع طاغية

 (المضمون: اسقاط القذافي من الحكم الليبي بعد 42 سنة ليس فقط اسقاطا لطاغية سلب لجيبه وجيوب عائلته ثراء بلاده. هذا اسقاط لشخص كان ينبغي أن يتلقى علاجا ذهانيا وان يدخل المستشفى، على ما يبدو، في قسم مغلق).

سويسرا خرجت عن طورها. هذا حدث في 2008. رجلا أعمال سويسريان وصلا الى ليبيا للترويج لاعمالهما اعتقلا هناك كعملية رد على اعتقال هنيبال، نجل العقيد معمر القذافي في جنيف. الابن العاق اعتقلته الشرطة المحلية بعد أن وصلت شكاوى خطيرة عن أنه هو وزوجته الحامل ضربا بوحشية خادمين لهما.

الشرطة السويسريون لا يعرفون التذاكي. لم يكن يهمهم ان يكون هذا معمر القذافي أو جنكيز خان. اذا كانت هناك شكوى – فانهم يفحصونها. واذا كان لها اساس – فانهم يعتقلون. هذا هو السبب الذي أدى الى اعتقال القذافي.

ولكن القذافي الاب نظر الى القضية بشكل مختلف وبشدة كبيرة. دون أن يتناول على الاطلاق جوهر الامر، رأى في الاعتقال مسا مباشرا ومقصودا بكبرياء ليبيا، وطلب الاعتذار الفوري من الحكومة السويسرية، اضافة الى دفع تعويضات بمبلغ 435 الف دولار وتقديم افراد الشرطة الذين شاركوا في اعتقال ابنه الى المحاكمة.

واحتل الامر فورا العناوين الرئيسة في بلاد الساعات والشيكولاته والهادئة بشكل عام. الحكومة هناك كانت مطالبة بان تعالج المشكلة واطلاق سراح رجلي الاعمال اللذين علقا، بغير صالحهما، في العاصمة الليبية، وهما بريئان من كل جرم، إذ لم يكن هما أي صلة باعتقال ابن الحاكم المجنون.

وسرعان ما تطورت القضية. وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كلمي – ريه وصلت الى طرابلس لاجراء حديث مع قادة الدولة الليبية. واستقبلت هناك بوجوه عابسة، ولم يشكرها أحد – ولا حتى في حديث جانبي – إذ يدور الحديث عمليا عن شيء محرج وسخيف قليلا.

اما هي من ناحيتها فكانت مستعدة لان تبحث عن صياغات للاعراب عن الاسف لما لحق بابن الزعيم عديم اللقب الرسمي، بل ودفع تعويضات على ذاك الحرج. فبعد كل شيء سويسرا ليست بالضبط الدولة الافقر في العالم، وما الذي لا يفعلونه لتحرير مواطنين أبرياء يذوون في السجن الليبي.

ولكن تقديم الشرطة الذين أدوا مهامهم الى المحاكمة؟ هل متعذر حقا! وزيرة الخارجية كلمي – ريه طلبت فحص امكانيات اخرى، بما فيها رفع التعويض المالي لليبيا، ولكن الامر لم يجدِ نفعا.

ومثل الاميرة التي طلبت القمر، أصر القذافي على مطلبه غير المهاود: الشرطة يحاكمون والا سيفهم وكأنهم لم يخطئوا بتجرؤهم على اعتقال ابنه! معمر القذافي توقف ايضا عن اصدار التأشيرات لسويسريين وأوقف ارسالية النفط الى سويسرا، وكان ينبغي أن تمر سنتان قبل ان تنتهي القضية. الى هذا الحد.

اسقاط القذافي من الحكم الليبي بعد 42 سنة ليس فقط اسقاطا لطاغية سلب لجيبه وجيوب عائلته ثراء بلاده. هذا اسقاط لشخص كان ينبغي أن يتلقى علاجا ذهانيا وان يدخل المستشفى، على ما يبدو، في قسم مغلق.

عندما تفكر بحقيقة أنه بعد انتهاء قضية لوكربي، اضطر العالم الى احتضانه، وعلى أن طوبي بلير، رئيس الوزراء البريطاني الاسبق، عانقه، ونتذكر بان نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي، سمح لهذا المجنون بان يقيم خيمته في باريس، مع حارساته الشخصيات ومع ناقاته التي يشرب حليبها – فانك لا يمكنك الا تسمع تنفس الصعداء من أفواه كثيرة في العالم بأسره.

ولكن الى جانب ذلك، مع تنفس الصعداء تفهم أيضا مرة اخرى ضعف العالم، اللعبة ذات الوجهين وحقيقة انه طالما لا يظهر اناس شجعان مستعدون لارسال زعيمهم الى الجحيم – سيواصل العالم لعب اللعبة.

 

نهاية القذافي: هذه القصة معقدة

 (المضمون: العالم الذي يتدخل في النزاعات الداخلية ومستعد في هذا الاطار لان يتخذ عقوبات مختلفة، ناهيك عن خطوات عسكرية، من يضمن لنا الا يوجه في يوم من الايام سهامه المغلوطة بالذات الينا؟ التاريخ يفيد بانه عندما تفرك أمم العالم يديها رضاً – فبالذات من اليهود مجدٍ، ربما، التصرف بأخذ جانب الحذر).

قبل لحظة مما يلوح كنهاية الدراما الليبية الكبرى – والظهور المفاجيء لمن اعتبر معتقلا لدى الثوار، سيف الاسلام القذافي، يدل على أننا لم نصل بعد الى النهاية التامة – يبدو أن العالم يحتفل منذ الان لقصة ايجابية لجهد دولي في تحويل المعوج الى مستقيم. مع حلول الربيع العربي نهض معارضو النظام في ليبيا، ثاروا على الحكم المطلق، عرضوا حياتهم للخطر في مواجهات وحشية مع قوات وحشية، وفي لحظة الحقيقة جاءوا ليقفوا على يمين الديمقراطيات الغربية. هذه حاليا هي الرواية الدولية: في ليبيا وقعت حرب بين أبناء النور وابناء الظلام، حدث يضع العالم المتنور نفسه فيه – بوسائله العسكرية المتطورة تحت تصرف الاقلية التي تكافح في سبيل حريتها.

بل ربما يمكن المخاطرة والقول انه منذ الانتصار الغربي الكبير على صدام حسين، لم يحظَ الغرب بان يكون جزءا من تحرر وطني لشعب مقموع. وبالفعل، من منا لا يفرح شماتة على الطاغية من ليبيا؟ من منا لا يفرح حتى ولو للحظة قصيرة في أن يكون جزءا من قوى الخير، عضوا في اسرة الشعوب، التي ترى العدل يخرج الى النور؟

ولكن النظرة القريبة لاحداث الزمن الجديد تستدعي تعطيل الفرح. فالقذافي كان قصة معقدة: الزعيم الذي عرف كيف يخدع العالم الغربي ويتحول من كريه نفس زعماء بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة الى الابن الضائع التائب. حتى نهاية القرن العشرين كان القذافي هو الشيطان بتجسده، وتلطخت يداه بدم الارهاب في العالم بأسره. عمليات 11 ايلول كانت بالنسبة له فرصة رائعة للانقطاع والتطهر، شجب الارهاب ودق أبواب اسرة الدول المتنورة بنجاح فائق. بتهكم عبقري صرح في العام 2003 بانه كان في الماضي رجلا سيئا وطور سلاح الدمار الشامل، ولكن ها هو بحماسة تاب وهو يدعو مراقبي الامم المتحدة للوصول الى بلاده لنزع السلاح الشرير منها.

خطته لاعادة التأهيل نجحت. رئيس وزراء بريطانيا عقد في ليبيا زيارة رسمية، والولايات المتحدة سارعت الى شطب ليبيا من قائمة الدول المؤيدة للارهاب. وسرعان ما تحول القذافي الى حبيب الاسرة الدولية. نوع من المجنون ذي سيماء ملونة، محاط بحارسات شخصيات. ارهابي متقاعد أقواله الغريبة لا حاجة لان تقض مضاجع مواطني الغرب.

وفجأة جاءت الثورة، جزءا من الموجة الهائلة في المجتمع العربي، والعالم الغربي ترجم ذلك فورا الى تعابير التسامح والتعددية. في البداية كمن تملكهم الشيطان، وبعد ذلك بحماسة زائدة، انضم زعماء الغرب الى تأييد الثوار على القذافي. الشيطان الذي نظف واصبح على مدى عقد واحد من الزمن شخصية ايجابية، عاد الى مضارب الكراهية لدى الغرب. ليس فقط بالاقوال، بالشجب او بالدعوات العلنية، بل بالسلاح وبالنشاط العسكري الموجه ضده.

وعلى أي جانب توجد اسرائيل؟ في نظر نفسها، في جانب الاخيار. في جانب الغرب المتنور غير المستعد لان يقبل بالمظالم الاجتماعية. ولكن سجل حياة الزعيم الليبي، كما وصف اعلاه، يجب أن يشعل اضواء حمراء لدى كل اسرائيلي بصفته هذه. الخفة التي لا تطاق والتي يقرر فيها العالم المتنور من له ومن لمشاكله، من خير ومن شر، تثير الاشتباه بان الايديولوجيا الديمقراطية ليست البوصلة الحصرية لهذا العالم، الذي نرغب في الانتماء اليه.واذا كان لا سمح الله التقسيم الى أبناء نور وأبناء ظلام مصابا، لنفترض، بهذه المصالح أو غيرها، فمن يضمن لنا ان نجد أنفسنا دوما في الجانب الصحيح من المعادلة؟ أين الضمانة في أن تحويل القذافي من شيطان الى تائب وفي النهاية مرة اخرى الى تجسد كل الشر على الارض محفوظ فقط للزعماء العرب، وليس لا سمح الله، لدولة اسرائيل ايضا؟ أصحاب الشعر الشائب منا لا يزالون يتذكرون كيف نال مناحيم بيغن "الارهابي" اعادة تأهيل، ولا سيما بعد أن صافح السادات؛ ولكن أليس الطريق ذا اتجاهين؟

وخطير بقدر لا يقل، فان العالم الذي يتدخل في النزاعات الداخلية ومستعد في هذا الاطار لان يتخذ عقوبات مختلفة، ناهيك عن خطوات عسكرية، من يضمن لنا الا يوجه في يوم من الايام سهامه المغلوطة بالذات الينا؟ التاريخ يفيد بانه عندما تفرك أمم العالم يديها رضاً – فبالذات من اليهود مجدٍ، ربما، التصرف بأخذ جانب الحذر.