تعالت أصواتُ التشاؤمِ والنكوصِ عن التفاؤل مع انعقادِ اجتماع ممثِّلي فصائل المقاومة في القاهرة يومَي 21 و22 تشرين الثاني الحالي، ونظرَ كثيرٌ من المراقبين للبيان الصادر عنه بكثير من الإحباط والاستياء، وعجَّت مواقع التواصل الاجتماعي بإطلاق مواقفَ غير واقعية، تلازمت مع تصريحات صلاح البردويل المغرِضة، التي تراجع عنها في الليلة نفسها التي أُطلقت فيها التصريحات. ثُمَّ تلا ذلك تصريحات من يحيى موسى، وقبله أحمد بحر وشروطه، وأخيراً مؤتمر خليل الحية أمس، الذي هدَّد فيه وتوعَّد إذا لم يتمُّ صرف الراتب من قِبَل الحكومة، مع أنَّ بيان القاهرة جاء موضوعيًّا ومُنسجمًا مع واقع الحال، ولم يخرج عن الرغبة الأكيدة ببناء جسور الوحدة الوطنية القوية والراسخة وفق الشرط الطردي لتقدم عربة المصالحة على أرض صلبة ومتينة.
غير أنَّ المراقب وهو يتابع المزاج العام للشارع الفلسطيني، يلحظ أنَّه متعجّل لرؤية النتائج الإيجابية فوراً، وينظر للمصالحة كحبل نجاةٍ له من كارثة الانقلاب الحمساوي على الشرعية، الذي ترك بصمات خطيرة على كل مناحي الحياة. ولم يتوقَّف أمام الكمِّ الكبير من القضايا السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والاجتماعية والوظيفية الإدارية والقانونية والتشريعية على مدار الأحد عشر عامًا الماضية، التي تحتاج إلى معالجاتٍ ناضجةٍ ومسؤولةٍ قِبَل الإعلان عن تقدُّم حقيقي. رغمَ أنَّ لسان حركة "فتح" والقيادة الشرعية يركِّز على مسألة أساسية الآن كمدخل لوضع مدماك حقيقي للمصالحة، عنوانه "تمكين حكومة الوفاق الوطني من تولي مهامها على الأرض"، ولم تضع الملفات الأخرى على طاولة البحث لإعطاء فرصة للتقدُّم بخطى ثابتة على الأرض. وبالتالي المواطن البسيط، وحتى الكثير من القوى والنخب السياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية وقعت أسيرة الخطاب الإعلامي الشكلي لقائد "حماس" في غزة، يحيى السنوار، الذي "يلمع ذهبًا" من حيثُ الشكل بالدعوة للوحدة الوطنية، وإبدائه الرغبة للنزول للشارع للضغط من أجلها، واستعداده "لقطع رأس" مَن يعطِّل المصالحة، والمتناقض مع ذلك في الاجتماعات ذات الصِّلة الحقيقية بالمصالحة. فالسنوار مثلاً في اجتماع العاشر من تشرين الأول الماضي، كاد يُفجِّر بمواقفه المتشدِّدة خيار المصالحة، حين أكَّد أنَّه "لن يسمح بوضع سلاح حماس ضمن خطة وطنية واحدة، وسيبقى على الأنفاق، ويستقطب عناصر جديدة لذراعه العسكري "القسّام"، وسيطوّر المصانع الموجودة تحت الأرض .. الخ من المواقف غير الإيجابية. ولولا حكمة الأشقاء المصريين وسعة صدر وفد حركة "فتح" في ذلك الاجتماع لما خرج بالنتائج الإيجابية المعلنة آنذاك.
لم يشأ المرء ولوج هذا المنعطف إلا لتبيان الفرق بين الخطاب الشكلي والممارسة الفعلية على الأرض لحركة "حماس"، وفي الأيام الأخيرة تماهى الخطاب مع السلوك اليومي، وارتفعت وتيرةُ الخطاب السوداوي، الذي يعكس إشاعة أجواء الفشل عبر التهديد والوعيد لعدد من قادة "حماس". مع ذلك لا يجوز الغرق في متاهة انسداد الأُفق، ويفترض على الجميع استخدام لغةٍ وخطابٍ يُغذّيان خيار التفاؤل والأمل في أوساط الشعب الفلسطيني عمومًا وقطاع غزة خصوصًا، والابتعاد عن لغة الشعارات الديماغوجية العنترية، لأنَّ المصالحة الوطنية مصلحة عُليا للشعب العربي الفلسطيني عموماً وللقيادة الشرعية خصوصاً، لأنها أُم وأب الشعب الفلسطيني. وليس أي قائد مُضطراً لإطلاق مواقف ملتبسة وتوتيرية، لأنَّ محدّدات المصالحة واضحة وجليّة، وتتمثَّل في وثيقة الوفاق الوطني أو وثيقة الأسرى في أيار 2006، وورقة المصالحة المصرية التي تعتبر مرجعيّةً لسلاح المقاومة، فضلاً عن شعار الرئيس أبو مازن الناظم للمصالحة "نظام سياسي واحد، قانون واحد، سلاح واحد". وبالتالي لا حاجة للانخراط في دوامة التوتير المفتعَلة، التي يسعى لها البعض لتفجير الألغام في طريق المصالحة، لاسيما أنَّ المتضرّرين منها في جناحَي الوطن وخاصّةً في قطاع غزّة كثر.
إذًا على الشعب أن ينتبه للغثّ والسمين من المواقف المطروحة لتسويق الذات في الشارع، وبين البروباغاندا والمواقف الحقيقية لأولئك القادة، وأيضًا بين خلفيات حركة "حماس" تجاه المصالحة واستعجالها لسلق طبختها قبل إنضاجها. ومع ذلك، على الجميع المضي نحو المصالحة بخطى حثيثة وقوية، ولكن على أرض صلبة، ولا يجوز القفز، لأنّ نتائجه عقيمة. ونحن لسنا ألمانيا الغربية عندما توحّدت مع ألمانيا الشرقية في تسعينيات القرن الماضي، ودفعت مئات المليارات ثمنًا لوحدتها، رغم أنَّ الرئيس أبو مازن ومنظمة التحرير وحركة "فتح" وفصائل المنظمة، هُم أصحاب المصلحة الحقيقية في المصالحة، ومستعدون لدفع الثمن مُضاعفًا ومكعّبًا عندما يتمُّ التطبيق الأمين لخطواتها، وتتمكَّن حكومة الوفاق من تولي مهامها على الأرض. وليرفع الجميع الصوت عاليًا دعمًا وانتصاراً للمصالحة والوحدة الوطنية، ولتصمت أصوات الشؤم والنعيق، وليقف الشعب موحَّدًا وقويًّا خلف خيار المصالحة الحقيقي لا الشكلي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها