غسان جواد

في الطريق الى مخيّم «اليرموك» في دمشق، تمثل الصورة النمطية للمخيم الفلسطيني في المخيلة اللبنانية. «غيتو» منعزل عن محيطه يطوّقه الجنود من كلّ ناحية، وما أن نصل الى المتحلّق الجنوبي للعاصمة حتى تظهر امامنا منطقة من الأبنية المتضرّرة ويظهر «اليرموك» كأحد أحياء المدينة، لا فارق بينه وبين جواره من الأحياء السورية.

"اليرموك" إسم معركة بين العرب والدولة البيزنطية، ويعتبرها بعض المؤرخين من اهم المعارك في التاريخ، لأنها كانت بداية انتصار العرب خارج الجزيرة العربية وتوسعهم نحو بلاد الشام بعد وفاة الرسول بأربع سنوات.

اما المخيّم فقد أُنشئ عام 1957 على مساحة اربعة كيلومترات مربّعة ليكون مكان إقامة للّاجئين الفلسطينيين. وهو ليس مخيّماً رسمياً في تصنيفات وكالة "الاونروا"، مع انه اكبر تجمّع للفلسطينيين في سوريا. وقبل الحرب كانت تقطنه أيضاً عائلات سورية فقيرة عاشت بدورها الى جانب الفلسطينيين.

نصل ومرافقونا الى جانب بناء من اربع طبقات على خاصرة المخيّم، نركن السيارة ونصعد الدرج الى احدى الطبقات العليا، حيث ينتظرنا القائد العسكري لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة" خالد جبريل المعروف بـ"أبي العمرَين". الشقة تبدو للسكن وليست مركزاً عسكرياً، يرحب بنا الرجل بابتسامة دافئة وعينين قويّتين، يجلس على الارض، نجلس في البداية على الارائك الى جانبه، ونبدأ بالحديث المترامي الاطراف حول المخيم وما يجري داخله. يتناول "ابو العمرَين" الكومبيوتر الشخصي، يفتحه على خريطة مركزة للمخيّم، ويشرح بالرسوم والالوان مناطق سيطرة "القيادة العامة" والمسلّحين، ويتحدث بثقة وصراحة عن صعوبة المعركة وطبيعتها.

دمار هائل

لم يكن "اليرموك" ليشهد هذا الكمّ الهائل من الدمار، لولا أنّ المعارضة المسلحة قد قررت الدخول اليه قبل نحو تسعة اشهر. بسرعة سقط المخيّم لأنّ الجيش السوري لم يشارك في المعارك، وبسبب خيانات تعرّضت لها "اللجان الشعبية" المولجة حمايته. غادر سكان المخيّم من الفلسطينيين والسوريين الى دمشق او لبنان وبعضهم غادر الى اوروبا. حدثت مبادرات للعودة، إلاّ انها اصطدمت بعناد المسلحين واصرارهم على البقاء في المخيّم. معظم "الكتائب" الموجودة هناك تُعتبر متطرّفة وتنتسب الى الحركات الاسلامية: "لواء الاسلام"، "لواء ابن تيمية"، "لواء اكناف بيت المقدس"، "لواء شام الرسول" وغيرها. ولا اثر لما يسمّى "الجيش الحرّ" في المخيّم.

قبل ثلاثة اشهر، قررت "القيادة العامة" ومعها بعض الفصائل الفلسطينية، شنّ هجوم عسكري لإستعادة المخيّم. وقد تقدمت القوات المهاجمة على محورَين، وذلك بهدف التقدم نحو منطقة "الريجي" حيث تصبح السيطرة على المخيّم سهلة بالمنظار العسكري.

يقول "ابو العمرين" إنّ اكثر من ثلث المخيّم اصبح في قبضة المهاجمين. ويستجيب لطلب رئيس حزب "التيار العربي" شاكر برجاوي بأن تحظى "الجمهورية" بزيارة احد المحاور. يحضر على الفور أحد قادة المحاور واسمه "فراس". رجل اربعيني ملتحٍ بلباس عسكري وسحنة فلسطينية. نغادر الشقة نحو سيارة جيب عسكرية، نصعد فيها وكنّا اربعة اشخاص. تنطلق سيارة الجيب، وعلى مسافة مئتَي متر تقريباً لافتة كُتب عليها "مقرّ شرطة اليرموك" وتحتها يجلس بعض رجال الشرطة من السوريين. يبدو من نظراتهم انهم معتادون على هذا المشهد. يخبرنا "القائد فراس" انه جاء من لبنان من مخيّم شاتيلا مع مجموعة من عناصره ليشارك في معركة تحرير المخيّم.

على الجبهة

ندخل طريقاً تبعد عشرين متراً عن مقرّ الشرطة السورية. لنصطدم بمشهد دمار رهيب. ليس ثمة بناء على حاله. كلّ الابنية متضررة او مهدّمة او آيلة للسقوط. نركن السيارة في طريق فرعي لجهة الشمال. يطلب منا "فراس" الترجّل سريعاً وان تكون حركتنا خفيفة لتفادي رصاص القنص."لديهم قناصون محترفون من الشيشان"، ويشير بيده الى بناء مهدم: "هنا كان نحو عشرين قناصاً منهم، وقد هدمنا البناء على رؤوسهم، وهم مقاتلون محترفون".

السير في ايّ طريق داخل المحور ممنوع، التقدّم الى الامام نحو الجبهة يكون من خلال فتحات داخل الابنية. من بناء الى بناء نعبر في ثغرة أُحدثت في الجدار، وفي كلّ بناء ثمّة قصة عن مواجهة عنيفة، وأنفاق، ومبانٍ فخخها المسلحون قبل أن يغادروها.

يشير "فراس" الى خفرة مغطاة بالسيراميك وبعض الجبص، "هنا كان ثمّة نفق يوصل الى الجهة الثانية من الطريق، لقد اعدّوا العدّة وجهزوا انفسهم خلال ثمانية اشهر، واضطررنا لاستخدام تكتيكات ووسائل عسكرية خاصة، كنا نهاجم كلّ بناء من خلال السطح ونمدّ القنابل بالحبال ونفجّرها عندما تصل الى الأرض، ونستخدم المواسير لرمي القنابل داخلها ثمّ نقتحم من أعلى الى أسفل عبر الدرج، ويضيف: "أخيراً تنبّه المسلحون الى هذا التكتيك فراحوا يهدمون كلّ السلالم والادراج حتى لا نسيطر على المبنى بعد قصفه".

مكمن متقدّم

ندخل الى مكمن متقدّم في احد المباني، العسكريون من "القيادة العامة" هادئون لكنّ الحركة تدبّ بحذر عند وصولنا. ينبهنا قائد المكمن الى خطورة المكان الذي نقف فيه، يطلب منا الابتعاد قليلاً لأنهم في صدد قصف مبنى مقابل"، يُجهّز صاروخ "غراد" وإطلاقه مباشرة نحو ذلك البناء، نستهجن بدورنا هذه الطريقة، وأسأل قائد المكمن عن قدرتهم على استخدام هذا الصاروخ المتوسط المدى من مسافة قريبة الى هذا الحدّ، يبتسم ويجيبني: "هذا إبداع "الجبهة" وعملها الخاص، لقد عدّلنا الصاروخ ليصبح سلاحاً يُستخدم في حرب الشوارع". ثم يصطحبني الى "معمل" قريب في إحدى الغرف ويشرح كيف تمّ تعديل الصاروخ، ويضحك قائلاً: "لو عرف صانعو "الغراد" اننا نستخدمه بهذه الطريقة والفاعلية لجنّ جنونهم".

في الجهة المقابلة، لا اثر ولا ردّ سوى بعض رصاصات القنص تنطلق من حين الى اخر. حجم الدمار الذي يُحدثه الانفجار في المبنى يدوّي في الارجاء وتهتز حوله الابنية. يقرر قائد المكمن بعد اتصالات أن "يكرّمنا" ويطلق ثلاثة صواريخ اضافية، وهكذا كان. إقتربتُ في لحظة محاولاً تصوير طريقة انطلاق الصاروخ فمنعني قائد المكمن مستهجناً: "كيف ستصوّر من هنا؟؟ الضغط الذي يحدثه انطلاق الصاروخ سيرميك على جبل قاسيون!!!"

بعد جولة في الأبنية وعلى خطوط التماس، نعود من حيث أتينا والغبار يغطي وجوهنا وثيابنا، والأسئلة تتكاثر في رؤوسنا. يستقبلنا "ابو العمرين" مجدداً، ويسأل عن رأينا فأجيب: "انني سأكتب كلّ ما شاهدت"، يبتسم ويقول: "أكتب ما تشاء، وقلْ ما تريد، إشتمنا اذا لم تكن مقتنعاً بهذه المعركة.. لكننا نقاتل من اجل "حق العودة" ومن اجل فلسطين، ومن اجل أن لا ينجح مخطط إنهاء القضية الفلسطينية... هل تعرف انّ نحو 23 الفاً من فلسطينيّي المخيّم أصبحوا في السويد؟؟ هذا هو جوهر المعركة".