عاصم بدر الدين

تبقى فكرة وجود متحف في مخيم شاتيلا ملتبسة. يبدو المكان، بعد زيارته، أنه لا يحمل رفاهية كهذه. هذا واضح. لكنّ الفلسطينيين، أكثر من غيرهم، يحملون ذاكرتهم في أجسادهم. والمعروف من حكايات التهجير أن الناس في رحيلهم حملوا معهم كل شيء. وهذه حكاية يبدو أنها حوّلت الفلسطينيين أنفسهم إلى متحف. وهم، في تقرّبهم من هذا التصور أو نفورهم منه، خسروا شيئاً من وجودهم «العادي». لكن حكاية «متحف الذكريات والتراث» مختلفة قليلاً. وهي، بمعنى آخر، «مغتربة» عن الرواية الرسمية.

التأسيس

أسس المتحف الدكتور محمد الخطيب، وحيداً، في العام 2004. كانت مبادرة فردية، وبقيت هكذا. والرجل صرف ما يقارب الـ43 ألف دولار في جمع مقتنيات المتحف. وهي، تقريباً، ألف قطعة من فلسطينيي لبنان وسوريا. تُعرض في غرفتين، لا يدخل إليهما لا ضوء ولا هواء. حين يُفتح الباب، من زاروب المخيم، إلى داخل الغرفتين ندخل في عالم آخر. وليس المقصود المكان الذي يشبه ما يجانبه من عمارات، لكن الاختلاف، هو في تأسيس المتحف للماضي كأنه مسألة يومية. وهذا ما يقدر الخطيب، وحده، على تفسيره. فهو رأى أن الإسرائيليين «بعدما سرقوا الأرض، يريدون أن يسرقوا التاريخ وتراثنا. قررت أن أجمع هذا التراث وأحافظ عليه».

جمّع القطع من الناس. وهو قرر أن يسأل كبار السن. يتذكّر قصة أول قطعة. كان يعرف المرأة، وكان خجلاً من أن يسألها عن قطع من فلسطين. يعرف أن هذه الأشياء تساوي عمر الناس. لكنّه فعل، وقبلت المرأة، وأعطته طاستين. أراد أن يبادلهما معها بالمال، لكنها رفضت. «فلسطين مش إلك وحدك». تشجّع بعدها، وتفرّغ لجمع القطع. أخذ الأمر نحو أربعة أشهر. لكنّ الناس مختلفة. يطلب بعضهم المال. أو يرفضون أن يعطوه شيئاً. «يخافون على أغراضهم. لكنني استفدت أيضاً من عامل الثقة». تملك سيدة آلة قديمة لصنع القهوة كانت توضع في الديوان. مات زوجها. وسافرت إلى الدنمارك. عرف الخطيب بوجود هذه القطعة. اتصل بقريب المرأة الذي تُركت عنده القطعة. لكنّه رفض، وقال إنّ صاحبتها طلبت منه حفظها. قرر الاتصال بها. قبلت، وقالت لقريبها إن «الدكتور سيهتمّ بها أكثر منك».

 

الناس والمتحف

لا تزال هذه القطعة موجودة. لكن المتحف في حال إعادة تأهيل. يبدو دهان جدرانه، في الصور القديمة، مقشّراً. وكان بعض الناشطين قد تبرّعوا بأموال دهن الغرفتين. هكذا، تتوزع الأغراض بشكل عشوائي وغير مرتب. لكن يمكن أن نرى الاواني والراديو والثياب التقليدية ومفاتيح ومسابح وباخرة من صنع يدوي وبعض لوازم الديوان. والشكوي، وهي مثل كيس كان الحليب يُروَّب فيه. وجرن الكبة. وأشياء أخرى. وعلّق الخطيب، بكل قطعة، اسم صاحبها وتاريخ استلامها.

تعب صاحب المتحف. وهو، في آخر حديثه، يبدو غريباً عن مكانه. وحده. ولا يهتم الناس مثله. وما يعطيه للمحتف من معنى وطني، لا ينتبه إليه كثيرون. يعترف بذلك. «لا يعرف جميع الناس لماذا هذا المتحف. لا ألومهم. يبحثون عن عيشهم. لذا، لا يهتمون كثيراً. لكن البعض يعرفون طبعاً». وهذا التباس آخر في فكرة المتحف في المخيم. إذ ان تفكير الفلسطينيين في ذاكرتهم يتضاءل، قياساً إلى الثورة المنقولة عنهم. أو هم، اتخذوا من ذاكرتهم الجمعية فرديتهم. أو أن الأجيال اختلفت. وهو ما يبدو الخطيب واعياً له. يقول أنه يريد أن «يجعل الأطفال يعيشون في حياة أجدادهم. يمكنهم، في زيارة المتحف، أن يتعرفوا إلى ما لا يعرفونه». وتنظيم زيارة دورية للمتحف هو ما يطمح إليه الخطيب في الحياة الثانية للمتحف.

 

التنظيمات

لكنّ المخيم ليس واحداً. وليس المقصود وجود لبنانيين وسوريين، وغيرهم، فيه. بل الكتلة الفلسطينية، نفسها، ليست واحدة. وهو ما لا يقتصر على «شاتيلا» وحده. حين طلب الخطيب المساعدة، تُرك وحيداً. لا يكمل الخطيب جمله في هذه المسألة. لا يسترسل. كأنه فقد الأمل. وهذا تعبٌ. ويُعامل، في المبدأ، مشروعه كأنه غير موجود. والسبب واضح: ليس منتظماً. «والتنظيمات حين ترى مشروعاً ناجحاً، وثقة الناس بك تصارعك». كانت الغرفتان، قبل تحوّلهما الى متحف، قاعة يستعملها الخطيب في تنظيم الندوات. نجحت أيضاً. كان يطرح مسائل يومية وجديدة. «يكفي أن تحفز الناس على التفكير لينجذبوا. لكن هذا لم يُعجِب التنظيمات أيضاً. يريدون أن يشتغلوا سياسة. وأنا لا يهمّني. وهم جرّبوا أن يستفيدوا على حساب المتحف. لكنهم فشلوا».

تأهيل المتحف

يدخل المتحف، في أيامه هذه، زمناً مختلفاً. أرادت المجموعة نفسها التي ساهمت في تأهيله الأولي تحسين أوضاعه. استعانوا بمهندس ديكور. وما زالت الأفكار في طور التجريب. الخطيب يفضل أن يحافظ المكان على شيء من نفسه. «لا داعي للمبالغة في الصرف عليه. لا يمكن أن يكون الديكور أغلى من البيت نفسه. ونحن هنا في المخيم». ويمكن للأطفال، كما يقول، «أن يكسروا كل شيء». لكن كفكرة أولية سيقلص عدد القطع المعروضة. وستتوزع إلى مواضيع. مثل أدوات المرأة، والأدوات المنزلية، وأدوات العمل، وأغراض الديوان. «وأفكر بمعرض للصور والوثائق القديمة».

لا يزال الخطيب يبحث عن قطع. يحتاج مثلاً الى الصاع والمدّ، وهما مكيالان للحبوب مثلاً كانا يستعملان قديماً. لكن كل شيء يحتاج إلى أموال. وهو لم يعد قادراً على الدفع. وخطة تطوير المتحف تحتاج إلى تمويل. ينقص المتحف مكيّفات. وهو ما زال يستعمل مروحتين، وُصلت واحدة منهما إلى بطارية في حال انقطاع الكهرباء. «اذ يمكن أن تخرب القطع في حال غياب الهواء أو تعطل آلة شفط الرطوبة. وهو ما حصل مع بعض الأغراض». ويحتاج أيضاً إلى شاشة عرض تعرض لزوار المتحف القطع غير المعروضة. وطبعاً سكرتيرة تحضّر في المتحف وتوثق أغراضه. وهو كان حصل على كمبيوتر من «منظمة العمل الدولية».

 

أبو جورج والحقل

في المتحف فانوس أبو جورج. بقي الرجل، في شرق بيروت خلال الحرب الأهلية، فسمّي لحمايته بأبي جورج. كان يعمل هناك. وبقيت زوجته في المخيم. وكانت الأغراض التي حملاها معهما من فلسطين كثيرة. والحرب ثقيلة. فرمت الزوجة الأغراض كلها. ولم يبق غير الفانوس. وحين عاد الرجل إلى بيته، بعد توقف القتال، اكتشف غياب أغراض فلسطين. وهو، في تعويض ما خسره، جعل الفانوس مقدّساً. تتأسس موجودات المتحف على حكايات الناس. مثل عصا أبو الشوق، وهو «لقب الرجل الذي ساعد أسمهان».

وهذا ما يعطي هذا المتحف معنى مغايراً عن المتاحف التاريخية. هذا متحف شخصي، بمعنى ما. يتأسس على الأشخاص وذاكرتهم. مثل ما كتب على بابه «لكل قطعة قصة. ومن كل زاوية غصة». ولا ينفصل عن شخصية صاحبه نفسه وحكاياته. وهو كان سمع بفلسطين في الرابعة من عمره. هُجّر أهله منها وهو في أشهره الستة الأولى. كان رفاقه في حبوش (النبطية)، مكان سكنه الأول، كل واحد يملك حقلاً يذهب إليه. وهو لا يملك حقلاً. اشتكى لأمه. بكت. ثم قالت أنه يملك حقلاً كبيراً. وحين استفهم قالت أنه في فلسطين. لكن الذهاب إليه صعب الآن. «يمكن أن يقتلك الإسرائيليون»، قالت الأم. وصار الذهاب إلى فلسطين حلماً وقضية. «وهذا ما أستطيع أن أقدّمه لوطني وشعبي»، يقول الخطيب.