الحكم ليس منحة أو هبة أو تفويض إلهى ، وليس مجرد تفوض شعبى لمن يحكم. وليس غاية فى حد ذاته. بل هو أبعد واعمق من مفاهيم النفوذ والقوة والتسلط، على القدرة على التكيف مع محددات الحكم الداخلية والخارجية ، وقدرة على مواجهة التحديات التى يفرضها الحكم، وفى النهاية هو مساءلة ومسؤولية ، حتى فى النظم الإستبدادية والسلطوية ببعدها الدينى والمدنى يبقى الحكم قدرة على التكيف والإستجابة لمطالب الناس المتزايدة ، والتى تفوق فى الكثير من الأحيان قدرة الحاكمين. ونموذج غزة فى الحكم قد يفوق كل أشكال الحكم المتعارف عليها. فمن يريد ان يحكم غزة عليه أن يحدد أولوياته وأهداف ، وآلياته، والإمكانات التى التى تحكم حدود الحكم. وقد يشكل نموذج غزة للحكم أغرب نماذج الحكم المتعارف عليها ، لسبب بسيط وهى خصوصية وإستثنائية حالة غزة. ولقد برزت مشاكل الحكم مع إستفراد حركة حماس بحكم غزة واقعيا. وهنا كان التمييز ضروريا بين خيارات الحركة الخاصة بها، وبين خيارات غزة ، وثالثا بين الخيارات الفلسطينية الكلية على إعتبار ان غزة جزء لا يتجزء ولو فى المرحلة الآنية عن الكل الفلسطينيى . وهذا يبدو لم يحدث، فوظفت خيارت غزة لصالح خيارات الحركة وهو ما احدث حالة غير مسبوقة من الحكم، ومن التحديات الداخلية والخارجية. والتمييز الثانى المطلوب فى هذا النموذج تحديد محددات الحكم للحركة ومحددات الحكم على مستوى القطاع. والسؤال هنا هل الغاية من الحكم هو تقوية خيار حماس كحركة ذات مرجعية أخوانية ، وبالتالى الهدف هنا ان تكون غزة كينونة قوية للحركة على إعتبار أن حركة حماس هى الفرع ألأقوى عسكريا ، وألأكثر تنظيما بالنسبة لحركة الأخوان، ناهيك تلاصق غزة لمصر وإسرائيل والسلطة وهو ما يعطيها أهمية ووزن اكبر من هذا المنظور، ولذلك يصبح الهدف هو الحفاظ على هذه الكينونة ، وعليه يعتبر خيار الحرب منافيا ومناقضا لهذا الهدف الاساس، ويصبح الهدف من الحرب فقط خلق واقع سياسى جديد يضمن تحقيق الهدف الأول. ولذلك ذهبنا لثلاث حروب حتى اللحظة فشلت فى تحقيق اهدافها السياسية مما قد يفسح المجال امام حرب رابعة قد يترتب عليها واقع سياسى جديد.إلا ان حركة حماس وبعد ما يقارب العشر سنوات من حكمها الواقعى لغزة بدأت تدرك حجم التحديات والمشاكل التى تواجه الحكم فى غزة ، فمن ناحية لا تستطيع الحركة بكل إمكاناتها ان تعلن غزة حكما إسلاميا مستقلا فهذا يحتاج إلى إعترافات خارجية وخصوصا من العمق الجغرافى مصر وإسرائيل، ولذلك خيار الإنفصال الرسمى مستبعد فى هذه المرحلة . حماس بعد هذه السنوات بدأت تدرك طغيان محددات الحكم التى تفرضها غزة ، وكيف ان هذه المحددات تفرض ذاتها على محددات الحكم من قبل الحركة ، وهو ما يتطلب تكيفا سياسيا مع هذه المحددات ، وهو ما نلاحظ بعض إرهاصاته كالتوجه نحو مصر، والإستمرار فى خيار الحوار وصولا للمصالحة التى من خلالها يمكن ان تحل الكثير من تحديات الحكم فى غزة.إذن إشكالية الحكم فى غزة هى ما مدى التوافق بين محددات الحكم لحركة حماس وخياراتها، ومحددات الحكم وخيارات غزة التى تشكل الإطار البشرى والجغرافى وألأمنى والإقتصادى للحكم. وهنا اهمية الإشارة إلى محددات الحكم على مستوى غزة: أولها المحددات الجغرافية ، فغزة محكومة بمساحتها الجغرافية التى لا تزيد عن 340 كيلو مترمربع، وتتسم بغياب العمق الجغرافى ، وفهى ارض منبسطة ، ومنخفضة وتفقد العمق الإستراتيجى ، فعمقها لا يزيد عن 10 كيلو متر ، وهذه المساحة المخنوقة يحكمها البحر من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى ، ومنفذها البرى الوحيد مصر، وصغر المساحة ينعكس على قلة الموارد الطبيعية ،وعلى مصادر المياه والطاقة. وعلى فقدانها الميزة العسكرية ،ففى كل الأحوال غزة لا تصلح ان تتحول إلى ثكنة عسكرية ، ولا تصلح أن تنطلق منها خيارات الحرب، هذه الحتمية الجغرافية تفرض عدم فعالية الحرب والمقاومة العسكرية كخيار لتحقيق أهداف الحكم على مستوى غزة وحتى على مستوى الحركة. والمحدد الثانى المحدد البشرى ،فعدد سكان غزة تجاوز المليونين، لتعتبر من اكثف المناطق السكانية فى العالم. وهذا العدد يفرض تحديات كثيرة على الحكم وإشكالية المتمثلة فى منحنى التوقعات والمطالب وسلم التوقعات الذى يرتفع بمتوالية مضاعة تفوق قدرة أى حكم كحركة حماس، وما بالنا وغزة تحت الإحتلال والحصار، وهو ما من شأنه حدوث فجوة الحكم التى تقود فى النهاية للتفجر الإجتماعى. ، وأبرزأسبابه مشكلة الفقر والبطالة التى تجاوزت الأربعين فى المائة ، وإنسداد افق ومجالات العمل، وهذا يترتب عليه تحديات إجتماعية تفوق القدرة على الحكم أبرزها تنامى ألأفكار والحركات المتشددة التى تجذب الطبقة الفقيرة ، وتنامى المشاكل الإجتماعية من عنف وقتل وسرقة ، وكلها تعنى هشاشة البناء الإجتماعى الذى هو أساس الحكم الناجح والرشيد، وهذه التحديات قد تؤدى لسياسات معاكسة بالتركيز على البعد ألأمنى والعسكرى الذى قد يحتاج لإمكانات مالية كثيرة ، ويخلق فجوة حكم بين من يحكم فى بعد القدرة والتكيف والإستجابةوبقية السكان فى بعد المطالب المتنامية. والمحدد السياسى وألأمنى الذى يفرض نفسه وما له صلة بكل من مصر وإسرائيل، وهنا يواجه الحكم ثلاثية الأمن والقدرة على التوفيق بينهاوبين ما يفرضه امن غزة ، ورؤية حماس لأمنها.هذه بعض من التحديات والمحددات التى قد تضع الحكم بين خياري الحرب، وخيار الإنفجار الداخلى ، وكلا الخيارين يبعدان الحكم عن هدفه ألأساس وميله للبعد ألأمنى القمعى ، وفرض مزيد من الرسوم التى تشكل المصدر الرئيس للمال ، وفى الوقت ذاته تسرع من درجة الغليان والإنفجار الإجتماعى . وهذا يتطلب مراجعة لكل هذه الخيارات، وتفهم المحددات القدرية التى تفرضها غزة على من يحكم, تحديات لايمكن تجاهلها والقفز عليها، والمطلوب رؤية تنموية مدنية للحكم فى غزة وليس رؤية عسكرية .فالحكم فى النهاية يبقى ذا عمق مدنى اكثر منه امنى او عسكرى.