لعل أحد اهم الخيارات السياسية الفلسطينية إنهاء الإحتلال الإسرائيلي في المراحل الإنتقالية والعمل على وجود بنية سياسية ديموقراطية توافقية تشكل إطارا لصنع القرار السياسي الفلسطيني الملزم بشرعيته وتوافقيته. ولعل من أبرز متطلبات هذا المنهاج في الإصلاح هو عدم تركز السلطة في يد هيئة أو شخص واحد وذلك بتبني مبدأ الفصل بين السلطات ترجمة لمقولة مونتيسكيو السلطة تحد من السلطة ، اي الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

ومن ناحية أخرى وبسبب حالة الإحتلال الإسرائيلي وخصوصية الحالة السياسية الفلسطينية وتطوراتها، وتحكم متغيراتها الإقليمية والدولية يستوجب أيضا فصلا ليس فقط على مستوى السلطة الفلسطينية، ولكن أيضا الفصل والوضوح في العلاقة بين المؤسسات السياسية الفلسطينية السلطوية أو الرسمية والمؤسسات غير السلطوية.

المستوى ألأول توضيح العلاقة بين منظمة التحرير بإعتبارها الكينونة السياسية العليا والتي تشكل المرجعية السياسية الشرعية والتمثيلية الوحيدة لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وبين السلطة الفلسطينية، فالتمثيل والشرعية منوطة بمنظمة التحرير،وليس للسلطة الفلسطينية التي تعتبر جزءا من مكوناتها السياسية،وتتطلب صفة التمثيل والشرعية للمنظمة أن تراعي التطورات التي طرأت على بيئة النظام السياسي الفلسطيني من ناحية بروز فواعل وقوى سياسية جديدة كحماس والجهاد وغيرها، وبقدر إحتوائها لهذه القوى بقدر الإرتفاع بمستوى التمثيل.

وصفة التمثيل والشرعية تستوجب آلية إنتخابية لتشكيل المنظمة من خلال المجلس الوطني والتشريعي اللذين ياتيان بالإنتخاب، . وهذا ما يضمن التوافق وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية.والوظيفة السياسية للمنظمة التوافق على بلورة مشروع وطني فلسطيني توافقي يعبر عن متطلبات مراحل النضال السياسي ،بمعنى ألأولوية هنا لاليات إنهاء الإحتلال الإسرائيلي وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ،مع مراعاة مكونات ومحددات القضية الفلسطينية الداخلية والإقليمية والدولية ، وبالتوافق بين المحددات ألأيدولوجية والرؤى السياسية التي تحكم كل حزب وتنظيم فلسطيني ، وهذه الرؤية والمشروع الوطني تكتسب شرعيتها بتبنيها من قبل المجلس الوطني والتشريعي المنتخبان.وهذا يتطلب تحديد لسلطات وصلاحيات كل من منظمة التحرير التي تمارس سلطة رقابة سياسية عليا ، ومرجعية عليا للعمل السياسي الفلسطيني ، والسلطات السياسية والسيادية التي تمارسها مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والتي تتعامل مع بيئة النظام الداخلية بشكل مباشر.

ومن أبرز الأسباب التي قد ادت إلى التراجع في العمل السياسي الفلسطيني ، وتضارب القرار الفلسطيني ،وتراجع فعاليته هو تراجع دور منظمة التحرير لحساب دور مؤسسات السلطة ، وحولتها لجهاز تابع للسلطة يتلقى الدعم والمساندة المالية ، واحد أسباب ذلك تركز رئاسة المنظمة ورئاسة السلطة في شخص واحد، وكان ألأجدر وألأفضل الفصل بينهما ولعل الحالة الشرعية الثورية قد تكون الحاسمة هنا، ولذلك مرحلة ما بعد الرئيس أبومازن قد تفرض هذا التفكك ،والمستوى المقابل لهذا التفكك السياسي على مستوى السلطة السياسية الفلسطينية التفكك بين المستوى الرسمي وغير الرسمي،ويقصد بذلك العلاقة بين القوى والتنظيمات السياسية المكونة للمؤسسات غير السلطوية ، وضرورة الفصل بين رئاستها وبين رئاسة السلطة الفلسطينية ورئاسة منظمة التحرير، وتحديد رئاسة السلطة والدولة .

ومن أبرز مظاهر الضعف التي تسببت حالة التدهور السياسي الفلسطيني حالة ألإستقطاب السياسي ، وسيطرة وهيمنةالحزب أو التنظيم الواحد، وهنا تكمن العلاقة الشائكة ، فالسلطة الفلسطينية تدار بأسلوب ومصلحة التنظيم، وبآليات الحزب الفائز، وهو ما قد أنعكس على ترهل وضعف كل من الحزب والتنظيم والسلطة ذاتها.

هذه ابرز مظاهر الضعف والوهن السياسي الفلسطيني الذي اصاب النظام السياسي بالعجز والهرم السياسي قبل أوانه.وهو ما قد قاد إلى أسوأ مراحل العمل السياسي الفلسطيني وهي مرحلة ألإنقسام السياسي ، والقاسم المشترك بينها محاولة فرض نموذج الحزب المهيمن والمسيطر من إحتكار السلطة السياسة ، اولا من قبل حركة فتح وهيمنتها على السلطة الفلسطينية ، ونجاح حماس في الإنتخابات وما اعقب ذلك من إنقسام وإنقلاب على السلطة ، والسبب الوحيد لذلك هو سيطرة فتح على رئاسة السلطة ،التي اديرت بإدارة الحزب وليس العكس، وحول السلطة لآداة في يد الحزب الواحد، وعندما وصلت حماس للسلطة إتبعت نفس المنهاج، وهو إحلال السلطة وتحولها لآداة وفرع من فروع التنظيم.

ولعل السبب الرئيس في ذلك الفشل منذ البداية في الفصل بين رئاسة السلطةورئاسة الحزب نفسه، والفشل في بناء نظام وسلطة سياسية من الإتساع والمرونة والليونة السياسية والتكيف لتحتوي وتحتضن كل القوى السياسية الجديدة ، فكانت النتيجة النهائية فشل النظام السياسي في أداء وظائفه،.

وهذا هو المستوى الثالث لتفكيك وتجزئة السلطة الفلسطينية اي الفصل بين رئاستها وبين رئاسة الحزب، وهذا احد متطلبات النظم الديموقراطية ، الأساس والمحاسبة لرئاسة السلطة والدولة وليس الحزب، ونجاح الرئيس نجاح للحزب وبرنامجه في اي إنتخابات، لكن الفصل مطلوب، فالحزب والتنظيم آلية للوصول للسلطة وهو هدف رئيس لها، والسلطة وإدارتها تعني ان الرئيس هو رئيس للكل وليس للحزب .خيار التفكيك والفصل احد الخيارات والمناهج التي تلجأ لها انظمة الحكم الديموقراطية ، ويبقى لهذا المنهاج أبعادأ اخرى أهمها التوافق حول ماهية النظام السياسي برلماني ام رئاسي او خليط من ألأثنين، والأخذ بمظاهر البرلمانية والرئاسية قد يكون مطلوبا، مع توضيح وتحديد دقيق لصلاحيات الرئاسة والبرلمان، فالنظام السياسي الفلسطيني يحتاج إلى نموذج الرئيس القوي الضعيف، بإيجاد نظام كوابح بين السلطات الثلاث على غرار النظام الأمريكي ، وإستكمالا لعملية التفكيك يحتاج هذا الخيار لأساس دستوري قوي وواضح ومفصل لكل الصلاحيات والسلطات مستندا على منظومة من القيم والحقوق والحريات ألأساسية أهمها المواطنة الواحدة والدولة المدنية التي لا تلغي ما للدين من دور كمرجعية قيمية وحضارية وتشريعية عليا ، وفي هذا السياق اهمية إنشاء المحكمة الدستورية.

هذه بعض أبعاد تفكيك السلطة الفلسطينية على مستوياتها الثلاثة، وهي المخرج والخيار الامن لمرحلة ما بعد الرئيس الحالية التي لن تتكرر ثانية لأن النظام السياسي ببيئته المعقدة والمتشابكة لن يسمح بتكرار نموذج للحكم لا يستجيب لمتطلبات وغايات وأهداف النظام السياسي الفلسطيني الجديد، والبديل لذلك الفوضى والميل نحو السلطة ألأمنية القمعية ، وتأصيل حالة الإنقسام وإكسابها صفة شرعية سياسية.