في الخمس سنوات الأخيرة التي انشغل فيها النظام الاقليمي العربي بنيرانه وحروبه وإرهابه الممتد، كما انشغل فيها النظام الدولي بخلافاته الحادة حول تعريف الإرهاب وطرق مواجهته، والمهاجرين وكيفية التعامل معهم، والتغيرات المناخية وكيفية مواجهتها، فإن القضية الأخرى التي فرضت نفسها، وأعادت القضية الفلسطينية الى مسرح السياسة الدولية، هي هبة الأقصى، هبة الأجيال الفلسطينية الجديدة التي انطلقت في مطلع اكتوبر تشرين الثاني التي خطّطت من القيادة الفلسطينية بدرجة عالية من التوقع والانتظار والتبشير بها مثلما فعل الرئيس أبو مازن الذي اعلن مرارا وتكرارا أن الأوضاع القائمة في اراضي دولة فلسطين تحت الاحتلال أي القدس والضفة وقطاع غزة اصبح من المستحيل وبشكل مطلق احتمالها لأن حكومة نتنياهو الرابعة قد أوغلت في رهاناتها المتطرفة والعنصرية والعدوانية الى حد الجنون، حيث ادارت ظهرها بالكامل للاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة دولة اسرائيل منذ العام 1993، واغلقت الافق السياسي، واوقفت كل انواع المبادرات وتركت الشعب الفلسطيني بكيانه القائم "السلطة الوطنية وفصائله الوطنية والاسلامية، وحياة الشعب الفلسطيني بأكمله تحت خيار وحيد وهو الرضوخ للأمر الواقع دون قيد أو شرط، وهذا مبدأ قديم للحركة الصهيونية وخاصة لجناح "جابونسكي" الذي ينتمي اليه ويعتبر من تلاميذه، بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية ومعروف ان نتنياهو لم يقبل موضوعيا بحل الدولتين الذي انغمست فيها أربع إدارات أميركية "ادارة جورج بوش الاب، وبيل كلنتون، وجورج بوش الابن، وباراك اوباما، واستلزمت سلسلة من المفاوضات الطويلة التي كان اخرها الجولة التي انتهت بالفشل في نهاية شهر اذار من العام 2014، حين رفض نتنياهو الافراج عن الدفعة الرابعة من اسرى ما قبل أوسلو وفتح الباب امام مشاريع الاستيطان، وقدم عطاء غير مسبوق لقطعان المستوطنين ومجموعات الإرهاب اليهودي الذي وصل الى حد حرق الفلسطينيين وهم احياء كما حدث مع الطفل محمد ابو خضير ومع عائلة الدوابشة، وتبنت عمليات الإعدام الميدانية للشباب بتهم شكلية وزائفة لا ترقى الى محاكمتهم حتى امام المحاكم الإسرائيلية، ويصعب الحياة اليومية لدى الشعب الفلسطيني في حدود دولية، حدود الرابع من حزيران عام 1967 الى حد المستحيل.

تلك المحاولات الاسرائيلية جعلت راس الشرعية الفلسطينية الرئيس ابو مازن يقول من فوق منصة الهيئة العامة للامم المتحدة، والمجلس الدولي لحقوق الانسان، وفي جميع لقاءاته مع دول العالم، ان احتمال بقاء الوضع على حاله مستحيل، واعطت القيادة الفلسطينية اشارات واضحة ومتعددة في اجتماع المجلس المركزي للمنظمة الذي اخذ قرارا بالرغبة الجديدة في تغير العلاقة القائمة مع دولة الاحتلال، واخيرا جاء ما كان يتوقعه العقلاء ويستبعده المتطرفون وهي الهبة الوطنية، هبة القدس انطلاقا من اسم القدس، وامتدادا الى كل الضفة وقطاع غزة وداخل الخط الاخضر وداخل اسرائيل نفسها، هبة تحت عنوان وحدة الشعب ووحدة القضية ووحدة الهدف الذي اصبح سقفه انهاء الاحتلال، لأن الاحتلال يستحيل ان ينتج نفسه الا بهذه الطريقة، والاستيطان لا يمكن ان ينتج نفسه الا بهذا النوع من الإرهاب.

مع انطلاقة هبة القدس سقط أول رهانات نتنياهو بأن الشعب الفلسطيني في ظل ظروف المنطقة والعالم ليس امامه سوى الخضوع بالامر الواقع الإسرائيلي، ومع استمرار الهبة وعبورها الى الشهر الثالث والمدى المفتوح امامها سقط الرهان الثاني وهو التهديد الاسرائيلي باستخدام المزيد من القوة المفرطة وهو ما تفعله اسرائيل كل يوم وليس فيه من جديد.

اجيال الهبة ليست منقطعة عما حولها، وهؤلاء الشباب ينتمون في معظمهم الى كل الفصائل وهم من نسيج الشعب كله، وهم جاءوا من قلب الجرح ومن قلب الوجع والفرق انهم جاءوا بفعل شعبي وسلمي، وجاءوا من دون الخلافات والمماحكات التقليدية وبدون لغة الانقسام البغيض، وهذا هو جوهر التحدي الآن:

كيف نحافظ على سلمية الهبة؟ وكيف نحافظ على شعبية هذه الهبة، لتتسع لعمق جماهيرنا على امتداد ارض الوطن؟ هبة القدس ضوء باهر اضاء في تفاصيل حياتنا وجعلنا نعيد اكتشاف انفسنا، فنحن شعب في الميدان ولاننا كذلك فان باب الإبداع مفتوح وباب التفاعل الوطني مفتوح بحيث نلجم خلافاتنا ونوسع مشتركاتنا الوطنية، فالمجد لهبة القدس التي تطرح كل هذه الاسئلة.