الانتفاضة هي عمل تراكمي لأي ثورة، تسعى الطلائع الثورية إلي خلقها اعتمادا على نضال الجماهير الثورية الشعبية،  من خلال فترات مران وتجريب قد تستمر لسنوات، حتى يتم معرفة الأساليب والبرامج الناجعة للصعود إلي درجة الذروة الثورية. ويتميز الشعب الفلسطيني أنه نجح في تحقيق أهداف ثلاث انتفاضات متتالية وهي انتفاضة الأرض وانتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى.

في البداية لابد من التذكير بتعريف الرفيق لينين للانتفاضة : هي جزء من النضال الشعبي التراكمي يعتمد على الاندفاع الثوري للجماهير بقصد الصعود بالثورة لدرجة الذروة القصوى اعتمادا على طليعة الميدانية للجماهير بعد مرحلة إعداد وتحضير عسكريا وسياسيا،  وإقناع الجماهير أن مرحلة الانتفاضة مرحلة طويلة زمنية،  لذا فهي بحاجة لبرامج عمل تضغط على القوى المعادية بشكل مستمر لكنها لا تتمركز بزمان ومكان واحد بل هي في عموم الوطن. وإن لها أهداف كبرى ولا ترضى بالتغيرات الطفيفة بل تطالب بحلول جذرية لأزمة الحرية والعدالة في عموم المجتمع،  لذا فهي بحاجة لوحدة وطنية ذات خطة عمل واحدة قادرة على إقناع الجماهير بأهمية التقيد بفعالياتها، اعتمادا على مقومات الشعب الذاتية في البداية ثم إسناد حلفاء الانتفاضة بالمرحلة التالية،  حيث أن الانتفاضة ترهق الاقتصاد بشكل تصاعدي ولابد من إسناد الحلفاء بمراحل الانتفاضة المتقدمة.  وكثيرا من الانتفاضات الشعبية توقفت نتيجة التأزم الاقتصادي،  كما أن تكثيف الفعاليات السياسية دون إعطاء المجال للفعل العسكري يكسر القوة الضاغطة للانتفاضة،  فهي لا تستمر الا بموازنة الفعل السياسي والعسكري مع تصعيد الفعاليات الجماهيرية الشعبية واستمرارية إسناد الحلفاء.

وما ذكره الرفيق لينين كان شرحا مستفيضا للتاريخ الأوروبي الذي شهد انتفاضات عديدة، حيث أن انتفاضة باريس عام 1871 تعد جزء من أي منهاج يساري يسعى لتغيير الواقع الفاسد، إلا أن التاريخ يسجل انتفاضات فشلت في تحقيق أهدافها، مثل الانتفاضة 1916 في ايرلندا، التي كان هدفها إعلان استقلال إيرلنده ولكنها فشلت بعد أقل من أسبوع بسبب إعتمادها على الدعم الألماني. ويرى جيمس كولوني لو أن إعلان الانتفاضة تم تأجيله لاستمرت الثورة أو لو أن الاعتماد على المد الجماهيري التصاعدي بدل الصعود السريع إلي الذروة لما انحسر النضال داخل المعتقلات، إن إعلان الانتفاضة بدون تحضير كافي تتطلب نزول قيادة الانتفاضة للشوارع مما أفقدها القدرة على التخطيط للمراحل التالية، فالقيادة الميدانية لا تملك الرؤيا الشاملة في عموم الوطن وتكون نظرتها محصورة من تجربتها المباشرة.

كما أن استخدام كلمة انتفاضة عربيا كان لوصف بعض ثورات الشعبية اليسارية في الوطن العربي في فترة الخمسينيات دون أن نقلل من مصدرها الأوروبي، الذي يوازي بين الفعل السياسي والعسكري دون تعريض جماهير الثورة لدفع كلفة عالية، بل أن الجماهير تنظر للانتفاضة على أنها الأمل الذي سيغيّر الواقع تغييرا جذريا.

أما فلسطينيا، يسجل التاريخ أن نهاية الحكم العسكري لمنطقة الجليل في فلسطين كان الهدف الحقيقي من انتفاضة الأرض التي جاءت بهبات متتالية في بداية السبعينيات حتى وصلت الذروة الثورية في عام 1976 حيث نفضت كل النظام القديم القائم على سلب الأرض ومعظم حقوق المواطنة وأهمها قيادة الأقلية الفلسطينية في داخل الخط الأخضر. ومن نفس المقياس نقرأ انتفاضة الحجارة التي بدأ تحضيرها في بداية الثمانينيات ووصلت هباتها إلي الذروة في عام 1987، حيث نفضت أزمة ولاء الفلسطينيين وحددت أهدافه واضحة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي من سيقودنا للاستقلال، والحقيقة أن انتفاضة الحجارة حققت المعادلة الصعبة أن هناك كيان سياسي بين الدول العربية وإسرائيل لابد أن يتشكل. أما انتفاضة الأقصى فهي نتيجة بديهية للموت السريري لاتفاقية أسلو وفشل كل المبادرات الأميريكية، حيث وصل إسرائيليين لقناعة أن وجود السلطة الفلسطينية لا يتوافق مع تطلعات الصهيونية التوسعية فكان المطلوب إخراج السلطة من معادلة الصراع تحت مسمى إبعاد القيادة الفلسطينية عن أرض فلسطين، فجاءت انتفاضة الأقصى تحت هدف واحد أن السلطة الفلسطينية باقية مهما كان الثمن غاليا، فجاءت كلمات الشهيد عرفات: يريدوني أسيراً أو طريدا وإما قتيلا وأقول شهيدا شهيدا كما أنه طالب الشعب بالهتاف معه عالقدس رايحيين شهداء بالملايين، دفاعا عن القدس وأيضا دفاعا على ضرورة بقاء القيادة الفلسطينية في فلسطين.

إن الناظر للإعلام الفلسطيني يراه يتحدث بعبثية تامة عن الانتفاضة الثالثة؟ وهل فعلا نحن بحاجة لانتفاضة جديدة؟ كما أن بعض الإعلاميين المرموقين كتبوا أن كلمة الانتفاضة من اختراع اسرائيل في وصفها انتفاضة الحجارة؟ عموما لقد شرحت باختصار أصل الكلمة ومعناها الثوري وتاريخها في فلسطين. وهي تختلف ثوريا عن الثورات الشعبية مثل ثورة البراق أو ثورة القسام، حيث أن الثورات الشعبية تعلن ظهور تنظيمات ثورية جديدة لها آليات عمل جديدة، وإن قراءة الثورات الشعبية في فلسطين يبين بوضوح تراكمية النضوج في النضال الثوري الفلسطيني، دون التقليل من التطور المنهجي لباقي أركان النضال الحضاري الفلسطيني. وهذا يتطلب من أساتذتي في الإعلام الفلسطيني اختيار الوصف الدقيق لما يحدث في الأرض المقدسة فلسطين من فعاليات نضالية مستمرة مادام الاحتلال الصهيوني يواصل اعتداءاته المنهجية.

 وهذا يوصلني إلي استنتاج أنني  لا انتظر انتفاضة رابعة بالوقت الحالي لأسباب عديدة أهمها:  الوضع الاقتصادي الصعب في أرض الوطن، والذي يتراجع بشكل مستمر بسبب ممارسات الاحتلال العدوانية على كل مناحي الحياة مما سبب بانخفاض نسبة الاستثمار ورفع معدل البطالة وغلاء الأسعار ضمن ردة الفعل الإسرائيلية على منهاج مقاطعة البضائع الإسرائيلية. كما أن مشاريع الدول المانحة لا تعمل على تمكين الاقتصاد الفلسطيني للحد من البطالة وبعدها عن المشاريع الإنتاجية الكبرى، بعد إتخاذها منهج دعم مؤسسات المجتمع المدني دون السلطة الوطنية كردة فعل لانتفاضة الأقصى مما سبب عجز مستمر بالموازنة العامة واقتصار مشاريع السلطة على ترميم وتطوير البنية التحتية، وإن أي تحسن اقتصادي لن يتحقق إلا بعودة المركزية في التمويل،  كما كانت قبل انتفاضة الأقصى فأهلية السلطة الوطنية في إدارة أموالها حققت درجة شفافية عالية مقارنة في دول العالم، والسبب الحقيقي للتراجع الاقتصادي في فلسطين هو تغير منهاج الدول المانحة لا سوء إدارة السلطة،  التي تبنت نهج الاقتصاد المقاوم وتوسيع الخيارات السوقية مع ضمان التطوير المستمر للبنى التحتية، ولعل السبب الرئيسي في تقليل المنح المالية للسلطة مباشرة كان تحت بندين الأول هو سوء إدارة المشاريع والثاني دعم العمل المسلح الفلسطيني، وضمن التقارير الدولية الصادرة خلال الأربعة أعوام الماضية فإن موازنة السلطة الوطنية الفلسطينية شفافة بل يصفها الإعلام الفرنسي أنها شفافة جداً. وما يهمنا هنا أن الانتفاضات الشعبية لا تخرج من شعب وضعه الاقتصادي صعب بل أن المدخول الرئيسي للأسر الفلسطينية يأتي من موظفي القطاع العام ويتبعه قطاع الخدمات ثم عوائد المغتربين وفي المرتبة السادسة معونات الدول المانحة، وهذا يعني أن اقتصادنا عمودي يصعب معه خوض فعاليات نضالية طويلة الأمد مثل انتفاضة.

وهناك سبب داخلي يتمثل بالانقسام الفصائلي الذي ينفي مفهوم الوحدة الوطنية، الركيزة الأساسية لانتفاضة حقيقية، كما القطبية السياسية في فلسطين تحول دون تشكيل أحزاب سياسية جديدة، بل تخلق توسع سرطاني للمستقلين المتسلحين بمشاريع الدول المانحة مما سبب ضعف عام لتطور الفكر السياسي الفلسطيني،  بل أدى إلي انسلاخات فردية كثيرة داخل الفصائل الفلسطينية الرئيسية، ومن هنا فإن وجود تحضير فكري لقيام انتفاضة معدوم أو أنه مازال في طور النواة السرية، فالتغيير الميداني الوحيد كان تشكيل لجان للفعاليات الأسبوعية ضد الجدار وتوسيعها لتشمل المستوطنات ودعم الأسرى من قبل حركة فتح، لكنها مازالت في طور البناء المتأني على الصعيد الفكري والبرامج التطويرية.

وسبب أخير عدم وجود حليف مستعد لدعم الانتفاضة معنويا وماليا، وهي مسألة يسهل قراءتها في ردات الفعل لأنصار الحق الفلسطيني في المنطقة العربية وباقي دول العالم، من خلال الخطاب السياسي الرسمي أو الفعاليات الجماهيرية لجبهات الإسناد المناصرة للشعب الفلسطيني.  ومهما قيل عن انتفاضة الأقصى رغم ارتفاع عدد شهداؤها أو انتفاضة الأرض رغم أنها عدّلت مفهوم المواطنة للفلسطينيين في إسرائيل، إلا أن انتفاضة الحجارة تعد ثقافة وفكرا أقوى انتفاضات العصر الحديث ليس في فلسطين وحسب بل على الصعيد الدولي، فهي حققت تغيير جذري بفهم القضية الفلسطينية لدى إسرائيل وحلفاؤها.

إذن فالهبات الشعبية أو غضبة القدس لها أهداف صغيرة لا تقارن بالمطلوب شعبيا أي الاستقلال التام وحل قضايا التسوية الدائمة الممثلة بالقدس والمعابر واللاجئين والمستوطنات والأسرى والسيادة الفعلية على الأرض وما فوقها وما تحتها. فالجانب الإسرائيلي فشل في إقتاع الدول الكبرى بضرورة مشاركة إسرائيل بحروبها في المشرق العربي، حتى ولو من باب الإسناد وتقديم الخدمات، بل أن أي منح مالية إضافية أو مشاريع اقتصادية لا تجد من يمولها إلا الصهيونية الدينية الداعمة للجماعات الصهيونية في المستوطنات المقامة على أرض الدولة الفلسطينية، ولعل أخطر ما جاء في ردات الفعل الإسرائيلي الإعلان عن إقامة شبكة كاميرات مراقبة ترصد كل حركة في محيط المستوطنات بكلفة مالية تقدر بعشرة مليار دولار، مما يعني أن هناك مكافأة عالمية لما قام به المستوطنين الدينيين، حيث أن نسبة التدين في المجتمع الإسرائيلي ترتفع بشكل هستيري لأن كل الدخل الإضافي للمواطن الإسرائيلي قادم من الجماعات الدينية المتطرفة فقط ، وهذا يسبب قلق عند اليساريين والعلمانيين الصهانية أنفسهم بل يصفوا مستقبل إسرائيل بأنه آخذ بالتحول عن الديموقراطية الحرة.

أما الجانب الفلسطيني فقد أعلن أن المسجد الأقصى للمسلمين دون تحديد هوية هؤلاء المسلمين هل هم فلسطينيين أم إسرائيليين أم من خارج الأرض المقدسة في صيغة إخبارية واعية أن المسلمين في حيفا ويافا واللد والرملة وباقي المدن إسرائيلية ستكون موحدة مع فعاليات القدس مثلها مثل نابلس والخليل وغزة وكل فلسطين، وهنا الصيغة تخرج المسجد الأقصى من السياسة واحتمالاتها لتضعه ضمن منطقة عبادة خاصة بالمسلمين مثل باقي مساجد فلسطين بغض النظر عن السيادة السياسية لمدينة القدس ضمن صياغات كامب ديفيد الثانية التي تقسم السيادة لسياسية وبلدية ودينية وغيرها.

إن الجماهير الفلسطينية تعي جيدا أن الظرف لا يسمح بانتفاضة جديدة، لكن المسجد الأقصى له خصوصية خاصة في وعي الفلسطيني يرفض أن يكون محل مساومة وتقسيم لاعتبارات أكثر من دينية، فهو يشكل الباعث للثورة والثورة المضادة، فالحركة الصهيونية التي عملت منذ أكثر من مائة عام لتشكيل الكيان الصهيوني تعتبره ناقصا بدون الهيكل السليماني المزعوم الذي يشكل القِبْلَة وقدس الأقداس وباقي الوهم الصهيوني المزعوم، كما أن دخول شارون للأقصى طرح تساؤلات كثيرة في حينها هل فشلت إسرائيل في حفرياتها تحت المسجد لتصعد وتُقدس المُدنّس، هذا كلام الصهيونية الدينية التي تدعي أن المسجد يُدنّس ما تحته من مقدسات، أما الآن فإن نتياهو يطالب على منبر الأمم المتحدة بحق اليهود والسيّاح بزيارة المسجد الأقصى معلناً أن توراة جديدة تشكلت تسمح لليهود بالصلاة بمكان مدنّس على حد زعمهم، مما سبب جدل واسع في أوساط اللاهوت التوراتي. لذا سنستمر بالنضال هبات بعد هبات حتى نحقق النصر الفلسطيني والنصر آت النصر آت.

خالد أبوعدنان/ ولدت لاجئا وأحيا مهاجرا