في اجواء الذكرى الخمسين لانطلاقة فتح والثورة الفلسطينية المعاصرة، فان المشكلة الاصعب التي تواجهها القضية الفلسطينية، وقيادة الرئيس ابو مازن على رأس هياكل الشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير والسلطة الوطنية وبقية هيئات النظام السياسي الفلسطيني، ان مكونات ومفردات رئيسية من الشعب الفلسطيني مثل حركة حماس، وبعض الفصائل، وحتى بعض اوساط حركة فتح نفسها، لا يعرفون وغير مؤهلين لان يعرفوا اين موقعنا بالضبط من النظام الدولي الراهن أحادي القطبية الذي تقوده اميركا ولها الرأي الحاسم في توجهاته، ولا يعرفون خطورة الموقع الذي نحن فيه موضوعيا بسبب تدافع الأمور، والثمن الذي يجب ان ندفعه, والتحديات التي يجب ان نواجهها من أجل تجسيد المسألة الفلسطينية في شكل ومضمون دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، القدس الشريف، دولة في ارض فلسطين وليس في اي مكان او بديل اخر، دولة تعبر عن الاستجابة ولو بدرجة معقولة لحق الشعب الفلسطيني، وليس نتيجة انزياحات مصطنعة في الجغرافيا او الديمغرافيا كما هو المشروع الصهيوني الذي اطل برأسه حتى قبيل قيام اسرائيل، وبسببه حلت اتفاقيات الهدنة عام 1949 بدلا من حدود قرار التقسيم 181 للعام 1947، وبسببه أحيل بيننا كشعب فلسطيني وبين ان نكون طرفا في التقسيم، ثم سخطت قضيتنا الى مجرد قضية لاجئين والآن يريدون شطبها حتى بهذا المستوى، وبسبب ذلك المشروع الصهيوني الذي بقي يطل برأسه بين وقت واخر طيلة السبع وستين سنة الاخيرة، فان الاتفاق الصهيوني الاميركي على خلق بدائل كثيرة، حتى لا تعود قضيتنا الى قاعدتها الاولى،قاعدة القانون الدولي والشرعية الدولية.
موضوعيا، نحن ندخل الان في رحاب الثورة الفلسطينية الثانية، وهي الاصعب الف مرة لأن الثورة الفلسطينية الاولى التي قام بها الشعب الفلسطيني على يد فتح في مطلع عام 1965، انطلقت في ظل نظام دولي ثنائي القطبية حتى وان كانت كفته الراجحة لصالح اميركا وحلفائها، وانطلقت في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث اصبحت الكلمة المسموعة لحركات التحرر الوطني، ثورة فيتنام، ثورة الجزائر، وبقية الثورات في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، واينما كنا نولي وجوهنا كنا نجد من يتحدث لغتنا، ويتعاطف معنا، وكانت الوعود والآمال كثيرة، صحيح ان ثورتنا آنذاك كانت هي الاصعب بسبب موضوع الصراع، وبسبب طبيعة التحالفات، وبسبب المظلومية العالية التي كانت تتمتع بها المسألة اليهودية، والذكاء الشديد الذي كانت تتصرف به الحركة الصهيونية، ولكننا في نهاية المطاف كنا ضمن السياق، ولكن الآن نحن ندخل في مرحلة الثورة الفلسطينية الثانية، وليس هناك شعب هو وكل ارضه تحت الاحتلال سوانا، والمنطقة من حولنا مستهلكة في صراع داخلي زائف بالمطلق، حيث الاسلام السياسي ضد الدولة الوطنية المدنية، وحيث اكاذيب الصراع السني الشيعي تصم الاذان مع ان اللاعبين في كلا الاتجاهين يلعبون لصالح الاسياد وليس لصالح انفسهم! وحيث الامكانيات تهدر على الاوهام وابتداء من عودة الحديث عن الخلافة وصولا الى اوهام الحديث عن احياء الامبراطوريات القديمة!
وفي هذه اللحظات: يتقدم الشعب الفلسطيني كل الصفوف في المنطقة، ويعلن ثورة ثانية، ثورة الاحتكام في الصراع الى مرجعيات اصلية، مرجعيات القانون الدولي، ومنصات القضاء الدولي، واحكام الشرعية الدولية، وهذه حكاية صعبة جدا، وبعض القوى الرئيسية في المنطقة تشغل نفسها باوهامها حتى لا تنخرط في هذا السياق، وبعض الاطراف الفلسطينية لا تزال تغزل بالمغزل القديم عاجزة عن التقدم الى الافق الجديد، وحدهم خصومنا هم الذين يعرفون خطورة ما نقوم به، وهذا هو الذي يفسر كل هذا الجنون الاسرائيلي، وهذا الجنون الاميركي، لان اسرائيل تعرف انها بالنسبة للقانون الدولي فانها كيان في حالة عدوان حتى على شهادة ميلادها، وفي حالة عدوان على القانون الدولي الانساني وفي حالة عدوان حتى على مصالح حلفائها، أما الولايات المتحدة فهي في مأزق خارق، لانها تريد ان تظل هي المرجعية، وان تظل في نفس الوقت ضد حقوق الشعب الفلسطيني، وان تظل تلعب بالادوات التي خلقتها بديلا عن القانون الدولي ومؤسساته.
اذن، نحن دخلنا موضوعيا مرحلة الثورة الفلسطينية الثانية، في الثورة الاولى الكفاح المسلح قدمنا واسهامات وابداعات خارقة ليس فقط على صعيد جبهات القتال وانما على صعيد نمط علاقاتنا داخل الثورة، وجبهتنا الوطنية الواسعة، ومساحة المشاركة في الميدان، وتجربة الانتفاضة الاولى، انتفاضة الحجارة، والذهاب الى كل تجارب المفاوضات دون ان نخشى الانتقادات، فقد كانت ثقتنا بانفسنا قادرة على جعلنا نخوض كل المخاضات دون ان نغرق او نتسخ، اما في الثورة الثانية الان فيجب ان ننتشل انفسنا من كل ما هو زائف او من صنع اعدائنا او استجابة لحالة الانكفاء والسقوط التي تعاني منها المنطقة، ما هو هذا الانقسام? انه اهانة بكل المعايير، وما هي هذه الافتعالات ضد انفسنا، انها معيبة تماما، في ثورة القانون الدولي والشرعية الدولية يجب ان نكون النموذج الذي يستقطب الاعجاب والتأييد، يجب ان نكون مصدر الاشعاع، وليس حظيرة لانعكاسات الاخرين الضارة والمهينة.