عن عمد، اخترت هذه الكلمات التي سمعتها من الدكتور صبحي سكيك مدير مستشفى الشفاء الرئيسي في قطاع غزة، للحديث عن المشهد الميداني والسياسي والانساني بالغ التعقيد في فلسطين الآن، انطلاقا من الحرب البربرية المدمرة التي تجري في قطاع غزة منذ ثلاثة اسابيع، وهي الموجة الثالثة من الحرب التي شنتها اسرائيل بترتيب مسبق ضد المشروع الوطني الفلسطيني ابتداء من يوم الخميس الثاني عشر من حزيران الماضي، على خلفية اختفاء المستوطنين الثلاثة، ووجه الاتهام الى حماس بأنها وراء ذلك دون تقديم أدلة حقيقية حتى الآن، وكان واضحا ان إسرائيل جهزت نفسها لحرب طويلة، فاستغلت الوضع العربي الغائب موضوعيا بسبب حروبه الداخلية، وغرق بعض مفرداته في وحل الصراعات الاقليمية بحثا عن دور أي دور، أو تنفيسا للأحقاد صغيرة، أو اندماجاً في لعبة العدو!!! كما استغلت اسرائيل ارتباك المستوى الدولي وتقاطعاته في العديد من القضايا في المنطقة والعالم.
بدأ الامر باستنفار الجيش الاسرائيلي وقطعان المستوطنين في عموم الضفة وفي القدس وكانت النقطة الفارقة إحراق الفتى محمد أبو خضير من شعفاط حياً، ولكن الأخطر أن المجتمع الإسرائيلي، والنخب السياسية والحزبية في إسرائيل، أعطت تفويضاً لنتنياهو وحكومته في فعل ما يريد.
وكان الجيش الإسرائيلي قد استعد بكامل الجاهزية، ابتداء من حشد الموازنة المالية، أكثر من خمسة مليارات أضفيت إلى الموازنة العسكرية، وحملة علاقات عامة مكثفة على الصعيد الدولي، وقد رأينا كيف القصف الجوي التدميري وإبادة عائلات بأكملها، وتدمير مئات البيوت فوق رؤوس ساكنيها في بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا والعطاطرة، والسلاطين وعزبة عبد ربه والقرية البدوية وأبراج الندى، ثم انتقل القصف التدميري إلى الشجاعية والزيتون وصولاً إلى كل الحدود الشرقية لقطاع غزة بما في ذلك مخيما البريج والمغازي، ثم بلدة خزاعة والزنة ثم قرية النصر والقرارة والشوكة وبقية مناطق رفح، وصولاً إلى التدخل البري تحت عناوين غامضة، وهي تدمير الأنفاق وتدمير منصات الصواريخ!!! بل إن إسرائيل فرضت معادلة شاذة بتحميل المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، مسؤولية ما يصيبهم من المجازر بسبب وجودهم حول ما تسميه إسرائيل بأنفاق وصواريخ حماس، وهذه التهديدات التي يتلقاها المواطنون الأبرياء بواسطة الهواتف الثابتة والمحمولة أو عبر مناشير تسقطها الطائرات على رؤوس الناس، أو عبر مكبرات الصوت المثبتة فوق الدبابات، أو حتى من خلال دخول جيش الاحتلال على أثير بعض الفضائيات والأذاعات المحلية.
والآن، بعد انتهاء الأسبوع الثالث من الحرب الشاملة ضد قطاع غزة، الصورة تبدو مأساوية، فعشرات الآلاف من جيش الاحتلال بكل عدتهم العسكرية من الدبابات وناقلات الجند والمدافع متنوعة الغيارات موجودة داخل القطاع، مدعومة من الزوارق البحرية، وتحت غطاء طيران إسرائيلي متنوع ابتداءً من طائرات الاستطلاع بدون طيار، وطائرات الهليوكبتر وصولاً إلى طائرات الـ "F16" و""F22.
كما أن المشهد يتضمن أكثر من سبعة الآف بين شهيد وجريح، وإزالة أحياء بكاملها، وتهجير قرابة مئتين وخمسين ألفاً مسجل نسبة عالية منهم في مدارس لوكالة الغوث والآخرين في بعض مدارس الحكومة والمساجد والكنائس أو عند أقاربهم الذين يعانون من لعنة المكان الضيق والزحام أصلاً، وهم جميعاً وكل أبناء القطاع في حالة إغاثية متدنية جداً، وفي حالة صحية طارئة للغاية لا يخفف منها سوى الخبرة الهائلة والكفاءة العالية والشجاعة التي تفوق المدى لكل هيئاتنا الصحية في قطاع غزة من أطباء وممرضين ومسعفين لم ينج الكثيرون منهم من الاستهداف المباشر سواء وهم في مستشفياتهم كما حدث في مستشفى الوفاء في غزة، أو مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح ومستشفى كمال عدوان في بيت حانون.
ولكن الأبشع من كل ذلك هو الموقف السياسي، فقد بادر الرئيس أبو مازن في بداية العدوان على غزة بالاتصال بالقيادة المصرية، وطلب منها بإلحاح أن تتدخل، كما اتصل بكل من له خط اتصال مع إسرائيل "تركيا وقطر والأطراف الدولية" أن تتدخل، وكانت الاستجابة السريعة من مصر، وقدمت الشقيقة مصر مبادرة لوقف إطلاق النار شبيهة إلى حد كبير بالمبادرة التي تم بموجبها وقف إطلاق النار في نهاية 2012، حين وجود الدكتور محمد مرسي على رأس مصر آنذاك، وقبلتها حماس في حينه كما قبلتها إسرائيل، وهو ما يسمى باتفاق الهدئة في 2012، وفي حين قبلت إسرائيل هذه المرة – ولو تكتيكياً- المبادرة المصرية أعلنت حماس عن رفضها!!! وقد عاد الرئيس أبو مازن ليتحدث مع الأشقاء المصريين عما سمي بالتفسير الفلسطيني للمبادرة المصرية، وقد قبلت مصر بالتفسير الفلسطيني الذي اعتبرته محقاً، وهو يقضي بالتباحث لإنها الحصار وفتح المعابر والافراج عن أسرى صفقة شاليط الذين أعادة إسرائيل اعتقالهم في موجة العدوان الأخيرة، وكذلك الأفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو التي رفضت إسرائيل الأفراج عنهم في سعيها لإفشال المفاوضات.
ولكن اتضح من المجريات أن حماس رفضت مبادرة مصر في عهد السيسي التي هي أفضل كثيراً من مبادرة مصر التي قبلتها تحت عنوان محمد مرسي!!! وأكثر من ذلك ان حماس حملت دماء غزة وأشلاء أطفال غزة ووضعتها على الطاولة بتصرف تركيا وقطر، رافضة أن تضعها في ذمة الشرعية الفلسطينية التي يجسدها الرئيس أبو مازن، الذي كان قد مد يد الإنقاذ لحماس حين جرى الاتفاق على تشكيل حكومة التوافق الوطني، لماذا؟ هنا تعود الشكوك فتثور من جديد، لماذا تفعل حماس ذلك؟ فهذا السلوك السياسي الشاذ لا يليق لا من الناحية المبدئية ولا من الناحية البراغماتية، فلقد كان يتوجب على حماس أن تدعم المصالحة التي وقعت هذه الحرب لإسقاطها، وكان على حماس أن تنقذ نفسها من لعبة المحاور التي أسقطتها في الخطيئة القاتلة حين اعتبرت نفسها جزءاً من الأخوان المسلمين في مصر وجزءاً من التنظيم الدولي، حيث لا يجوز أن نضع دماءنا في محرقة الصراع الأقليمي، وكانت حماس قد وصلت إلى حافة الكارثة من جراء هذا السلوك لولا أن يد الرئيس أبو مازن امتدت لإنقاذها من أجل المصالح الوطنية العليا.
والمشكلة الأكثر فداحة، أن حماس التي رفضت المبادرة المصرية حين كان عدد الشهداء بالعشرات، وكان الجيش الإسرائيلي على الحدود، تسعى الآن لقبول تهدئة مع وجود أكثر من سبعة الآف من الشهداء والجرحى، وعشرات الآف الجنود الإسرائيليين داخل البيت، بل هي تقبل بوقف إطلاق نار تحت العنوان الإنساني، مرة لخمس ساعات، ومرة لمدت اثنتي عشرة ساعة، ومرة ثالثة لمدة أربع وعشرين ساعة!!! وتعطي هذه الموافقات لأطراف غير قادرة موضوعياً أن تصرف هذه الموافقة بثمن مرتفع، بل إن هذه الأطراف أصبحت تتبرأ وتقول علناً إنها لا تريد ولا تستطيع أن تلعب دوراً دون مصر لأسباب موضوعية كثيرة يعرفها الجميع.
نحن الآن في نقطة الاختناق، ولكننا لا نبخس المقاومة البطولية حقها في الإبداع والصمود، ولكن أين نستثمر ذلك كله؟ ولا نبخس أسطورة الصمود في قطاع غزة، وهو شهب القيامة من الموت والتحليق من بين الأنقاض، ولكن هذا الصمود الذي يفوق الأساطير في مصلحة من يستثمر؟ هل يستثمر لصالح مشروعنا الوطني أم يستثمر في بورصة الرهانا الفاشلة والخاسرة؟
يجب حل هذا اللغز، يجب إسقاط هذا الوهم، يجب صمود المشروع الوطني وليس تمزيقه في الكواليس والكوابيس، ويجب تكريس الوحدة الوطنية التي جسدها الشعب الفلسطيني بهباته وتجلياته وشجاعته وقداسة دمائه في غزة والقدس والضفة وداخل الخط الأخضر وفي المنفى، والبوابة لكل ذلك هو الدفاع المستميت عن قرارنا الفلسطيني المستقل، وعدم التيه مجدداً في الصفقات المشبوهة والمسارب الملتوية للآخرين الذين لا تثور شهيتهم إلا على رائحة الدم الفلسطيني.