حدثت النكبة الفلسطينية في العام 1948، أي قبل 63 عاماً، لكن تداعياتها ما زالت قائمة حتى الآن، بل وتتزايد يوماً بعد يوم. إن النكبة هي نتاج المشروع الاسرائيلي الذي احتل الأرض العربية، واستمر في إضعاف الأطراف العربية. وهي أحد نتائج الاستعمار الذي غزا العالم العربي في العصر الحديث.

في العام 1948 هجرت إسرائيل 700 ألف فلسطيني، واليوم يبلغ عدد اللاجئين حوالي 4.8 مليون، أي ما مجمله 43% من مجموع عدد الفلسطينيين في العالم.

إن تهجير الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم لم يقتصر فقط على تغيير مكان سكن أو إقامة بالنسبة للفلسطيني من القرية أو البلدة إلى المخيم، بل كان بمثابة زلزال دمر الأنماط السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني التي كانت قائمة في ذلك الوقت. لقد فقد الفلسطيني في العام 1948 كل شئ، ولم يستثن من ذلك أحد، لا الغني ولا الفقير، ولا العامل ولا المختار، وأصبح الجميع بين عشية وضحاها فئة واحدة ذات خصائص مشتركة يطلق عليها "اللاجئون".

لقد أثبتت إسرائيل عبر السنين أن حربها مع الفلسطينيين والعرب هي حرب ديموغرافية أكثر من أي شيء آخر. والباحث في عمليات صنع السياسات والتخطيط داخل إسرائيل يستنتج بسهولة أنها بنيت على أساس عرقي قبل النكبة وبعدها حتى يومنا هذا. لقد ندمت إسرائيل لأنها لم تقم بتهجير كافة الفلسطينيين في العام 1948، وأنها أبقت على عدد قليل منهم. وقد توالت الانتقادات على بن غوريون حتى يومنا هذا لأنه لم يكمل عملية الترانسفير.

ومع مرور الزمن أصبح العرب المتبقون داخل إسرائيل يشكلون هاجساً مروعاً عند المخططين والسياسيين الإسرائيليين. إن معظم الدراسات المتعلقة بالعرب التي تقوم بها المؤسسات الإسرائيلية هي في المجال الديموغرافي. ويشكل المواطنون العرب اليوم ما نسبته 22% من مجموع السكان داخل الخط الأخضر، ومن المتوقع أن تتغير هذه النسبة بشكل جذري في المستقبل لصالح العرب.

لقد أفقد الهاجس الديموغرافي صواب كافة مؤسسات الدولة الإسرائيلية، التشريعية والتنفيذية والقضائية. إن الباحث في عمليات التخطيط ووضع السياسات والتشريعات داخل إسرائيل يلمس بكل وضوح أن نظام الحكم في إسرائيل بسلطاته الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وضع صوب أعينه هدفاً واحداً وهو أن يكون النمو الديموغرافي دائما لصالح إسرائيل. ولتحقيق ذلك وضعت العديد من السياسات لتضييق الخناق على البلدات العربية، وحصر العرب في أضيق رقعة جغرافية تحددها المؤسسة الإسرائيلية، ومنعها من التوسع والنمو الطبيعيين، وتشجيع الناس على الرحيل.

إن المواطن العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر يعيش اليوم أزمة سكن حقيقية، حيث يقدر معدل نقص الوحدات السكنية لديه بحوالي 60 ألف وحدة سكنية. في المقابل تبنى آلاف الوحدات بشكل دوري ومستمر في البلدات الإسرائيلية. كذلك منذ العام 1948 لم تنشأ ولا بلدة عربية جديدة بينما أنشئت مئات البلدات الإسرائيلية. وهذا دليل قطاع على أن عملية توزيع المصادر في إسرائيل تقوم على أساس عرقي بحت، حيث تعطى الأولوية للبلدات اليهودية، وما تبقى من فتات يخصص لعمليات تطوير منتقاة غير شاملة ومتكاملة للأحياء والبلدات العربية.

وتشارك السلطتان التشريعية والقضائية السلطة التنفيذية في تحقيق الأهداف المنشودة ضد العرب الفلسطينيين. فالقضاء الإسرائيلي يستند إلى قوانين الكنيست التي تشرع من قبل الأحزاب السياسية داخله. ومعروف موقف الأحزاب السياسية الإسرائيلية من العرب خصوصاً اليمينية المتطرفة، التي تجمع على تحجيم العرب بل وترحيلهم. لقد صدر مؤخراً قانون وسع صلاحيات ما تسمى "دائرة أراضي إسرائيل" وأعطاها الحق في التصرف بأملاك الغائبين.

لكن السؤال الصعب هو: ما العمل؟ فما زلنا نعيش تداعيات النكبة منذ 63 عاماً، وما زالت النكبة نكبة الأرض والإنسان، وإذا لم نعمل على تخطي آثار النكبة يمكن أن نعيش نكبات أخرى في المستقبل من نوع آخر. إن المطلوب في المرحلة الحالية هو الانتقال من إستراتيجية الإبقاء على الذاكرة الجماعية الفلسطينية الخاصة بالنكبة إلى إستراتيجية المواجهة لتخطي آثار النكبة.

وعليه لا بد من العمل على تطوير برنامج يواجه تلك الآثار داخل الخط الأخضر وفي الأرض الفلسطينية المحتلة، على أن يكون هدف هذا البرنامج تعزيز صمود المواطن الفلسطيني والعربي على أرضه لإفشال المخططات الإسرائيلية في تحجيم النمو الديموغرافي والحيز الجغرافي للبلدات والقرى الفلسطينية والعربية.

وبخصوص المستوى القانوني لا بد من تغيير قواعد اللعبة، وعدم الثقة بالقوانين والمحاكم الإسرائيلية المسيّسة.

ولا بد من العمل على استنفاذ كافة آليات القانون الدولي، وضرورة إجراء دراسة من قبل القانونيين الفلسطينيين والعرب داخل الخط الأخضر لكيفية التعامل مع بعض القضايا مثل الأحياء العربية المهددة بالهدم على الصعيد الدولي. وفي هذا السياق لا بد من تكاتف جهود الأحزاب السياسية الفلسطينية في الأرض المحتلة وداخل الخط الأخضر في عملية التنظيم والضغط والمناصرة لهذه القضية، ووضع المخططات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة وداخل الخط الأخضر أمام المجتمع الدولي كمهددات للسلام والأمن في المنطقة بل وفي العالم ككل، والاستفادة من التغيرات الجارية في العالم العربي للضغط على إسرائيل لتغيير نهجها وسياسياتها بحق الفلسطينيين والمواطنين العرب داخل الخط الأخضر.

وعلى مستوى الداخل في إسرائيل، يجب على مناصري السلام الإسرائيليين أن يتخذوا موقفاً شجاعاً من سياسات النظام السياسي الإسرائيلي، وعليهم أن يختاروا إما البقاء ضمن المنظومة أو الخروج منها. إذ من غير المعقول أن يأتي متضامن إسرائيلي إلى المناطق المهددة كل صباح ليتضامن مع الفلسطينيين، وفي ذات الوقت يكون جزءاً من منظومة المحتل ، ويستفيد من الامتيازات التي تقدمها له. هذا التناقض يجب أن ينتهي بخروج هذه الفئة من منظومة المحتل لخلق ضغط داخلي في إسرائيل.

من ناحية أخرى لا بد للاجئين الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم من التمسك بحق العودة إلى الديار والممتلكات باعتباره حقاً مقدساً لا يمكن التنازل عنه أو المساومة أو التفريط به، والتمسك بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضيتهم وفي مقدمتها القرار 194. صحيح أن موازين القوى الدولية ليست في صالح قضية اللاجئين اليوم، لكن لا يمكن أن يضيع حق وراءه مطالب، وما هو مستحيل اليوم يمكن أن يصبح سهلاً في المستقبل.