كان قرار الحكومة، تنكيس الأعلام حداداً على إزهاق روحيْ الشابين نديم نوارة ومحمد عودة أبو ظاهر، مواتياً على صعيد عاطفة الحزن والتأسي؛ لكن عاطفة الفعل السياسي، لا يواتيها سوى البدء في إجراءات الانضمام، الى المحكمة الجنائية الدولية وإبلاغها رسمياً في حيثيات طلب الانضمام أن المطلوب محاكمتهم هم مرتكبو الجناية، وزير الحرب الاسرائيلي موشي يعالون ونائبه داني دانون، والجنرال نيتزان ألون، قائد ما يسمى المنطقة العسكرية الوسطى، التي تنتشر وحداتها في الضفة الفلسطينية، والميجر جنرال تامير يداعي قائد ما يسمى "قسم يهودا والسامرة" في جيش الاحتلال. فهؤلاء الجناة، الذين يقتلون مع سبق الإصرار والترصد، لا يردعهم تنكيس الأعلام، وليس أوجب من تعلية ورقة الدعوى القضائية الدولية، التي تؤطر أسماءهم وأدوارهم منذ لحظة رفع الدعوى، باعتبارهم يمارسون فعلاً لا يرتفع بمعايير الشجاعة حتى الى سوية جرائم الحرب. فهم لا يحاربون عدواً مدججاً مثلهم بالسلاح، وإنما يقتلون تلامذة مدارس لهم الحق في التعبير عن حزنهم في ذكرى انتهاب بلادهم، وملاحقتهم بالرصاص وبقطعان الهمج المستوطنين، في مهاجع نومهم بعد الاستلاب والانتهاب.
أيتها الجنايات الدولية: نديم نوارة، مجرد تلميذ في الثانوية، من قرية يسمونها "المزرعة الغربية" لوقوعها غربي مدينة رام الله. كان طفلاً عندما شاهد الشاب ابن قريته محمد صالح شريتح، وهو في ربيعه الثامن عشر، أي في نحو عمر نديم قبل أيام، يسقط برصاصة في الرأس أطلقها مستوطن. لم يكن شريتح، الذي كانت "المزرعة الغربية" تسمى باسم عائلته حتى العام 1936 قد فعل شيئاً، سوى الإعراب عن رفضه وغضبه لقيام الهمج المستوطنين بالتطفل على أراضي قريته. ولنتخيل أن غرباء جاءوا الى الضاحية التي ولد فيها رئيس محكمتكم الموقرة الإرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، في بيونس آيرس، وبمساندة قوة احتلالية غاشمة، أرادوا الاستحواذ على الأرض واستيطانها وإنشاء تجمع سكاني حاقد ومعادٍ ومهين؛ أليس من حق أوكامبو أن يتظاهر سلمياً إن لم يقاتل؟ لقد قتل هؤلاء الأوغاد محمد صالح شريتح في آذار 2008 وكان نديم ما يزال طفلاً. إن هذا هو المناخ الذي ترعرع فيه الفتى، لا سيما أن مفاعيل التعدي والجريمة والعربدة، ما زالت تتواصل فصولاً. لم يكن ما فعله الشاب، سوى الإعراب عن مشاعر الحزن والتأسي، في ذكرى قيام المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرضنا وفي بيوتنا وعلى أنقاض القرى حاضنة ذكريات الفلسطينيين، وفي المدن التي شادوها بعرقهم وشهدت تنامي حضارتهم الإنسانية.
الشهيد الثاني، الشاب محمد عودة أبو ظاهر، من قرية "أبو شخيدم" المجاورة وتوأم "المزرعة الغربية" وشريكتها في المحنة وفي مقاومة هبوب الرياح الاستيطانية الكريهة. في قريته الصغيرة، ذات الـ 1800 ماكثة، نُسجت حكاية يتناقلها الخلف عن السلف. شهداء سقطوا مع الثورة الفلسطينية، وما زال من القرية نحو خمسة عشر أسيراً في السجون. ومن الطبيعي أن يكون للناشئة موقفهم، وقد ظل الظلم يكبر معهم. ينامون ويقومون، على كابوس الاحتلال والقطعان التي تهجم في كل حين. أليس من حق الشباب، أن يعبروا عن مشاعرهم المتجددة حيال كيان العدوان والجريمة ومشروع التوسع الاستيطاني الراهن؟! إن ما فعله المحتلون، عندما قتلوا الشابيْن، يرمز الى الجناية المديدة. وهذه جريمة تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، التي كانت تل أبيب وواشنطن، هما اللتان سحبتها توقيعيهما على قانونها، من بين 123 دولة. لقد خلعت إسرائيل والولايات المتحدة من عضوية المحكمة لعلمهما أن الجريمة هي أكسجين حياتهما. وهنا يتعلق الأمر بالأشخاص الذين يتحملون المسؤولية عن القتل، ويحق للمحكمة معاقبتهم، وفق أسس أربعة تحكم عملها: الاختصاص الموضوعي، والاختصاص الاقليمي، والاختصاص الزماني والاختصاص التكميلي.
مع تنكيس الأعلام حداداً، بدا ضرورياً توقيع فلسطين على "نظام روما الأساسي" لعام 1998 الذي ينص في بابه السابع، على أن القتل العمد جريمة يعاقب عليها القانون، لا سيما عندما تقع وفق الميثاق في سياق "هجوم موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين ويُعد نهجاً سلوكياً يتضمن الأفعال المتكررة لارتكاب المجازر، ويعزز العمل بهذه السياسة"!
ما الذي ننتظره بينما أفعال القتل تتكرر؟! إنهم، من جانبهم، أعلنوا عن قطع المقطوع أصلاً من المفاوضات. والمفاوضات نفسها عقيمة في حال استئنافها. ومشروعهم واضح الوجهة، وسلوكهم لا رجعة عنه. والعربدة تشمل كل لغتهم وأفعالهم ومواقفهم. يرون أن لهم حق الاعتراض على ضم قوة للنظام السياسي، ارتضت سياسة التسوية المتوازنة، على ألا يكون لنا حق الاعتراض على ضم حكومتهم وليس نظامهم السياسي وحسب؛ قوى لا تريد لنا أن نعيش ولا أن نوصف كبشر، فما بالنا بأخذ أي حق. فماذا ننتظر؟ لا بد من تعلية ورقة الانضمام للجنائية الدولية مع تنكيس الأعلام حداداً.