على الرغم من ضخامة وكثافة المعلومات التي نشرها موقع ويكيليكس، وهي كثيرة الغنى بما يتعلق بمنطقتنا، لكنها لم تشر أبداً إلى إسرائيل وشراكتها مع الولايات المتحدة، لا في التلاعب بسياسات أو تدخل في نقاط ومواقع، باستثناء ملاحظة عابرة حول عدوان إسرائيل على غزة أواخر العام 2008.

الغريب في أمر الوثائق المستحيل نكران صحتها، أنها خاصة بالبنتاغون، وأنها ضخمة، بحيث لا يمكن حملها وتكديسها  في صفائح ويكيليكس الالكترونية دفعة واحدة، كما لا يمكن للموقع أو صاحبه الاستحواذ عليها ونشر معلوماتها تباعاً، دون أن يسمح له بذلك، أياً كانت فرضية الديمقراطية الأميركية- البريطانية، أو غيرهما مرنة ومتسامحة، نظراً لخصوصيتها وسرِّيتها وحساسية مضامينها الأمنية والسياسية.

ليس تفصيلاً مثلاً دعوة بعض المسؤولين الأميركيين إلى إعدام صاحب الموقع جوليان أسانج، كما ليس تفصيلا أو عادياً اختلاق قضيَّة اغتصاب بحقه الآن، وتوقيفه في بريطانيا على أساسها. لكن ونظراً لحيوية المشهد وإثارته فإن الغائب الأكبر هو الشخص القادر على نقل هذا الكم الهائل من خزائن البنتاغون الإلكترونية، ومعه يغيب مدى استفادته من هذه الفضائح، وعليه يرد السؤال التالي: هل هناك تيار في البنتاغون ينفذ سياسة قلب الطاولة من أجل طرح هيكلية جديدة للعلاقات في المنطقة والعالم؟ هل ينفذ سياسة طوفانية بوجه أوباما وإدارته لمصلحة الجمهوريين، أو طرف ثان؟  لماذا إسرائيل، ذات الأذرع الطويلة، والمميزة  في براعتها في التدخل بشؤون العالم والمنطقة تبدو- حتى الآن- بهذه الدرجة من البراعة؟

هناك وثائق تمس العلاقات بين دول المنطقة، ومثلها تمس العلاقات بين المكونات السياسية والطائفية والمذهبية، فيما لم تكتفِ إسرائيل بزرع عملاء كثر لها في لبنان، وبنصب أجهزة تنصت وتجسس في أكثر من منطقة، فضلا عن اكتشاف مجموعة الموساد التي اغتالت قيادي فلسطيني في مدينة دبي الامارتية.

لأن لإسرائيل مصلحة بزعزعة الأوضاع العامة في المنطقة، كتخريب العلاقات بين الدول، وتخريب العلاقات بين مكونات وشرائح الدول الطائفية والمذهبية- السودان مثلا، والعراق ومصر ولبنان- فإن التهمة الأولى يجب أن توجه للحكومة الإسرائيلية بصفتها المستفيد الأول من الآثار السلبية التي ستتركها وثائق ويكيليكس الخاصة بالمنطقة.

ومن هذه الخلاصة، ننفذ إلى سؤال: لماذا الآن؟

لأن إسرائيل بكامل انكشافها أمام العالم كمعيق ورافض للسلام. لأن الصوت العربي- ورغم خفوته- بدأ يشير إلى مسؤولية الولايات المتحدة عن واقع قضية المنطقة، بسبب احتكارها للجهود وإدارتها الملف منفردة، بعد تعمد استبعاد وإقصاء الدول الأخرى عنه، حتى أوروبا حليفها الإستراتيجي الدائم في العالم.

لأن كراهيته إسرائيل في العالم، خاصة الإسلامي منه، بدأت تتسع، وها هي إسرائيل تخسر تركيا بالنقاط المتواترة سلباً، بحيث يتم انتقال تركيا تدريجياً أيضاً إلى الموقع غير المتحالف مع إسرائيل.

لأن الواقع الحكومي في إسرائيل لم يعد بالاستقرار الذي رسا عليه في العامين الأخيرين، خاصة بعد تلويح رئيس حزب العمل- وزير الدفاع إيهود باراك بالانسحاب من الائتلاف، وارتفاع الأصوات الداعية للانتخابات المبكرة، والتي تراها واشنطن ضرورية نظراً لكون التسوية وحكومة نتنياهو أمرين متعارضين، ونظراً لحجم الإهانة التي وجهها نتنياهو لأوباما وإدارته، حيث اضطر الأخير إلى التراجع عن مسعاه لوقف الاستيطان، وبالتالي ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي كمنتصر، ودون كلفة في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كما يرى اليمين الإسرائيلي.

لم نزل عند الأسباب التي تتهم إسرائيل بمسؤوليتها الكاملة أو الجزئية عن تسريب الوثائق.

فالإحباطات التي تواجهها إدارة أوباما لم تتبدل وهي ماثلة في جهات انتشار المصالح الأميركية، أفغانستان وباكستان والعراق، دون أن ننسى الأزمة الاقتصادية- كمنتج أميركي فرَّخ الكثير من الأزمات في العالم، خاصة أوروبا.

السلام في المنطقة أحد أهم  ركائز البنى التحتية التي تحتاجها الولايات المتحدة من أجل احتواء الصراعات وتثبيت موقعها وحماية مصالحها.

نتحدث عن المنطقة، خاصة القضية الفلسطينية ذات التقاطعات الأكيدة مع كل معادلة الأزمات الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا.

لم يتبدل رأينا بمركزية العلاقة الأميركية- الإسرائيلية، ولا بعضوية تلك العلاقة وتجذرها، لكن عندما تمس المصالح العليا للولايات المتحدة يتغير إيقاع التجانس والتحالف، لتدار ماكينات صراع تشتغل بوتيرة وصوت ناعمين، وهذا ما يحصل حالياً بين إدارة أوباما والحكومة الإسرائيلية، فعلى الأقل هل يرضى الرئيس الأميركي بالسقوط المدوي الذي لاحت بوادره في الانتخابات النصفية للكونغرس، بأن يقضي العامين المقبلين مكبلاً، وشبيها لموظف من الدرجة الدنيا في البيت الأبيض؟

لماذا نذهب في تحليلنا في هذا المسار حول تسريب الوثائق. لتكن إجابتنا محدَّدة بالطريقة التي أدار بها المعلقون الإسرائيليون قراءتهم للحدث، وبالتالي ضرورة استخلاص العبر منها.

مراسل معاريف في واشنطن شموئيل روزنز، طالب بالانتظار لكي تكتمل صورة جبل الوثائق، لكي يتعلم الساسة الإسرائيليون درساً مهماً. وسأل: هل من  يُضبط وهو يسرِّب أسرار دولة حقيقية سيكون بحاجة إلى المحاكمة؟ من هم الذين يقترحون بسخاء على الأميركيين تقديم هبات تساعدهم على التلاعب بحكومة إسرائيل؟

مراسل هآرتس أمير أورن رأى أن: من توقع أن يرى تحت تصنيف سري كشوفا مدوية في الحقيقية، خاب أمله- هو بذلك يشير إلى نمط العلاقات الثنائية وإدارة اللعبة.

رئيس الوزراء الإسرائيلي أخذ دور الواعظ في هذه المعمعة، فاعتبر أن: على الزعماء العرب أن يستقيموا مع أنفسهم، داخل وخارج الغرف المغلقة.

كذلك خلص ساسة اليمين الإسرائيلي بمقولة تشير إلى أن ما نشر حتى الآن دلالة على أن الصراع العربي- الإسرائيلي ليس أساس النزاع في المنطقة، وأن إيران النووية هي الخطر المشترك، فيما مستشار الأمن القومي السابق- عوزي ديان- والقيادي الليكودي حالياً، طالب بخلق "التحالف السري الحقيقي بين إسرائيل والأنظمة العربية لمواجهة "محور الشر" الذي يشمل تركيا أيضاً.

لكن يبدو أن هناك كثيرين، في إسرائيل والعالم يثقون بأن الولايات المتحدة قادرة على تجاوز الأزمة الراهنة في العلاقات الدولية، فيما كثيرون أيضاً يعتقدون بأن وثائق ويكيليكس تشهد على تضعضع وانحسار قوة أميركا.

مراسل هآرتس- ألوف بن، كتب عن تسريبات موقع ويكيليكس، فقال: إنها تصف تهاوي الإمبراطورية الأميركية،  أي خمود القوة العظمى التي سيطرت على العالم بسبب تفوقها العسكري والاقتصادي. فالبرقيات التي سربت- تصوِّر الرئيس الأميركي على أنه زعيم ضعيف ومستسلم. تتبعثر نواياه  الخيرة ورؤاه السامية كالغبار في الريح، إزاء محافظة وعناد نظرائه في الشرق الأوسط.

آفي شيلون، في صحيفة "إسرائيل اليوم" يرى أن: قضية الوثائق تكمل مثلث الضربات التي تلقتها الولايات المتحدة في العقد الأخيرة.

فالأولى- عسكرية، وهي حدث الحادي عشر من أيلول 2001، التي أفضت إلى حروب استنزفت قوة الجيش الأميركي.

الثانية هي الضربة الاقتصادية: أزمة المصارف والقروض السكنية في العام 2008، والتي رفعت الصين إلى مستوى التهديد الاقتصادي، إذ سيطرت الأخيرة على سندات دين الولايات المتحدة وباتت تستطيع إسقاطها متى قررت ذلك.

تسريب الوثائق- حسب آفي شيلون- يكمل المثلث بالضربة الدبلوماسية.

ويذهب الكاتب في "إسرائيل اليوم" بعيداً، إذ يخلص للتالي: على نحو متراكم تقوِّي هذه الضربات الشعور بأن "قرن" الولايات المتحدة قد كُسر، وأنها أصبحت أقل تهديداً. ويختم: منذ العصر الذي سمِّي "ما بعد الحداثة" لم يعد يوجد في العالم قسم جدّي للآداب في جامعة لا تعرض فيه الولايات المتحدة على أنها إمبراطورية شر، تساوي مظالمها، بل تزيد على أفعال الدول التي عَرّفها جورج بوش الابن بمحور الشر.

ما سبق يعيدنا إلى السؤال الذي بدأناه، مَنْ الأكثر استفادة بتسريب الوثائق؟

لدينا الكثير من الشكوك حول كلية أو جزئية الدور الإسرائيلي في عملية التسريب. خاصة افتراضها إعادة خلط الأوراق وشحن العلاقات الدولية، خاصة في منطقتنا بالكثير من عدم الثقة والتوتر، مع توقع الذهاب أبعد من ذلك، وهل يذهب إلى سؤال افتراضي جديد: هل يطل المحافظون الجدد برؤوسهم من جديد؟

تعدلت أولويات إدارة بوش من السعي للوقف الجزئي للاستيطان وتجميد حزمة الحوافز التي حاولت بواسطتها "إغراء حكومة نتنياهو، والانتقال إلى القضايا الجوهرية في الصراع، أي الحدود- القدس- اللاجئين والمياه. التعديل جاء على قاعدة الفشل وليس النجاح، فأي الوسائل لدى الولايات المتحدة تستطيع اختراق الانسداد الذي أحكمته إسرائيل بوجهها؟

 يجدر بنا امتلاك الإجابات، وفتح الآفاق التي لا تترك الملف رهينة بيد الولايات المتحدة، غير المستعده للضغط الحقيقي على إسرائيل- حتى لو مسَّت سياسة الأخيرة مصالح الولايات المتحدة في المنقطة بأسرها