لطالما كانت فلسطين رمزاً للصمود والنضال، بفضل عزيمة أبنائها الذين شكّلوا حصناً منيعاً في مواجهة محاولات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية، حيث يحاول الاحتلال فرض واقعه عبر سياسات التهويد، وتشويه التاريخ، والسعي لإبادة الشعب الفلسطيني، الذي كان وما زال وأجهزته الوطنية بالمرصاد.
في أواخر عام 2024، أطلقت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملة حاسمة في مخيم جنين تحت شعار "حماية الوطن"، بهدف استعادة الأمن والاستقرار بعد سنوات من الفوضى، والدفاع عن الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية في مواجهة مخططات خارجية تتناغم مع الأهداف الإسرائيلية الرامية إلى تدمير مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية. وفي المقابل، كثّفت إسرائيل استغلالها لما تسميه "التهديد الإيراني" لتعزيز دعمها الأميركي ومحاولة كسب شرعية دولية لعملياتها العسكرية.
أطلق الاحتلال الإسرائيلي في 22 يناير/كانون الثاني 2025، عملية عسكرية واسعة تحت اسم "الجدار الحديدي"، وذلك بعد يومين فقط من دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ. ولعلّ اختيار الاحتلال لجنين كنقطة انطلاق لهذه العملية لم يكن محض صدفة، بل جاء في إطار استراتيجية مدروسة تستند إلى مزاعم بارتباط بعض العناصر الفلسطينية بأجندات إيرانية، بهدف تقويض السلطة الفلسطينية وفرض سياسات تهدف إلى تكريس ضم الضفة الغربية وتعزيز الهيمنة الاستيطانية الاستعمارية.
وفي هذا الإطار فإن "حماية وطن" يتجاوز كونها مجرد حملة أمنية ليصبح رؤية وطنية شاملة تهدف إلى حماية الشعب الفلسطيني من الأجندات الخارجية التي تخدم مصالح الاحتلال. وقد قدّمت الأجهزة الأمنية الفلسطينية تضحيات كبيرة على طريق الحرية، حيث ارتقى العديد من أبنائها شهداء في سبيل الوطن. وتعتبر هذه التضحيات رمزاً للوطنية العالية التي يجب أن تُلهم جميع المؤسسات الوطنية لإعادة توجيه العمل النضالي نحو الأهداف السامية التي استشهد من أجلها هؤلاء الأبطال.
لا تقتصر المسؤولية الوطنية على مواجهة الخارجين عن القانون والعابثين بالسلم الأهلي، بل يجب أن تمتد أيضاً إلى محاربة محاولات اختطاف إرادة المؤسسات الوطنية من الداخل، إذ تشكل محاولات تهميش الكوادر والكفاءات الوطنية على يد بعض المسؤولين الفاسدين تهديداً مركزياً يُضعف قوة المؤسسات ويُشوّه "النهج الوطني".
إن التصدي لهذه الظواهر يتطلب اختياراً سليماً للقيادات التي تُمثّل القدوة، لإعادة ثقة الشارع الفلسطيني وإحياء الروح النضالية، حيث أن الخطر الحقيقي على المشروع الوطني الفلسطيني لا يأتي فقط من أعداء واضحين يمكن تشخيص حدود تأثيرهم ومواجهتهم وفق منهجيات وآليات معينة، بل من أولئك المزيفين المستترين داخل مؤسساتنا، الذين يمثلون تهديداً استراتيجياً يتطلب مواجهته إرادة حقيقية وإجراءات صارمة.
لخّص الوالد الشهيد القائد قدري أبو بكر هذه الحقيقة في قوله: "لكي ننتصر على الاحتلال، علينا الانتصار على الفساد أولاً". هذه العبارة ليست مجرد شعار، بل مبدأ أساسي في مسيرة النضال الفلسطيني، حيث يبدأ بناء قوة المؤسسات الوطنية من نزاهتها وقدرتها على تمثيل مصالح الشعب الفلسطيني بأمانة وصدق.
إن محاربة الفساد الداخلي، بما يشمله من استغلال النفوذ وتهميش الكفاءات، تُعتبر مسألة أساسية لا تقل أهمية عن مواجهة الاحتلال في كافة الميادين والجبهات، حيث أن قوة الجبهة الداخلية تُعدّ العامل الحاسم في صمود الشعب الفلسطيني أمام التحديات. ولتحقيق ذلك، لابد من تعزيز الوحدة الوطنية، والتعاون بين مختلف الفصائل، ودعم الشرعية الفلسطينية التي تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية، فهذه العوامل تشكل المفتاح لمواجهة المخاطر التي يفرضها الاحتلال، والذي يسعى من خلال سياساته إلى تغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي، بهدف تثبيت هيمنته الاستعمارية على أرض فلسطين.
يعكس شعار "حماية وطن" مسؤولية شاملة تجاه صون المؤسسات الوطنية، بما فيها السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير. ويجب أن تُدار هذه المؤسسات برؤية تُعلي مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، بعيداً عن المصالح الشخصية والانتهازية التي أضرّت بثقة الشعب الفلسطيني في مؤسساته.
يتطلّب الوفاء لتضحيات الشهداء ورسالتهم الخالدة العمل بلا كلل لتحقيق الحرية والكرامة وبناء دولة فلسطينية قادرة على مواجهة كافة التحديات، فالوقت لا يحتمل المزيد من الإهدار، والوضع الحالي يفرض علينا جميعاً، قيادةً وشعباً، التدقيق في كل تفصيل والعمل بروح الفريق لتحقيق المستقبل الذي يليق بفلسطين وأبنائها.
"حماية وطن" ليست مجرد شعار، بل التزام وطني يعكس الروح الجماعية والنضال المشترك، وهو الطريق نحو تحقيق الحرية والاستقلال الذي طالما حلم به الشعب الفلسطيني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها