بقلم: عبير البرغوثي

منذ أكثر من عام، لم تمر مناسبةٌ دولية أو وطنية تخصُ المرأة، إلا وكان لنساء فلسطين حضور من نوع خاص، حضورٌ مغمس بألم الجراح ووجع الفقد، فمنذ شن الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على قطاع غزة، كانت المرأة الضحيةَ الأبرز لأدوات تلك الحرب وتفاصيلها، ما بين حرمانها من أطفالِها أو زوجها أو أشقائِها، أو ما بين استهدافها بشكلٍ مباشر، والسعي إلى قتلها حقيقةً أو مجازًا، أو حرمانِها من منزلِها وخصوصيتها، كيف لا والاحتلال يعلم تمامًا أن صمود المرأة الفلسطينية يولدُ صمودًا مجتمعيًّا.

الإحصاءات الرسمية أظهرت أنه منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي وصل عدد الشهيدات في قطاع غزة إلى 11،585 ألفًا، وشكلت مع الأطفال نحو 69% من إجمالي الجرحى، الذين يبلغ عددهم 99،013 ألفًا، كما تم الإبلاغ عن فقدان 10،000 آلاف شخص في القطاع، 70% منهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى ذلك نزح نحو مليوني شخص من منازلهم نصفهم تقريبًا من الإناث. ووفقًا لبيانات هيئة شؤون الأسرى والمحررين فإنه لا تتوفر معلومات دقيقة بحق المعتقلات في قطاع غزة نتيجة جريمة الإخفاء القسري.

وفي اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية الذي يصادف السادس والعشرين من تشرين الأول من كل عام، كان هذا المشهد الذي يعكس عيش المستحيل الذي غدى واقعًا، واجتمعت فيه مفردات الصمود وأدوات والقهر.

- شقيقي شهيدًا.. بلا وداع

لا مكان آمنًا للنساء في قطاع غزة بسبب القصف الإسرائيلي المستمر الذي أدى إلى تدمير أكثر من 25 ألف مبنى، ونحو 150 ألف وحدة سكنية بالكامل، و200 ألف وحدة سكنية متضررة جزئيًا، و80 ألف وحدة سكنية أصبحت غير صالحة للسكن، حيث أكدت الإعلامية ماجدة البلبيسي من حي التفاح بمدينة غزة، والتي تقيم حاليًا هي وعائلتها في منزلها المتضرر من القصف الإسرائيلي: بأنه "لا يوجد مكان آمن في غزة، هذه الحرب هي حرب ضد النساء، فهن ضحايا القتل الإسرائيلي وضحايا النزوح وتراكم المسؤوليات، كنساء فقدنا أنوثتنا وعدنا إلى العصر الحجري، تفاصيل الحياة معقدة، والحياة باتت بدائية إن وجدت البدائية أساسًا".

وتضيف البلبيسي: "الملابس شحيحة والمجاعة تضرب أطنابها على طول القطاع وعرضه، لا أدوية ولا علاجات طبية، وسعر الحبة الواحدة من الأكامول بـ 10 شواقل، والمساعدات تتحول إلى بضائع في الأسواق بأسعار خيالية ولا توجد عدالة في عملية توزيعها، ومن أصعب المواقف التي شهدتها استشهاد شقيقي الذي لم أتمكن من رؤيته ووداعه استشهد وحيدًا في المشفى، ورسالتي للعالم في هذا اليوم (نحن أحياء أموات نحن لوحدنا، أوقفوا العدوان الإسرائيلي) ".
 
- نحن فقط ننتظر الموت أو الفقد!

قالت المحامية زينب الغنيمي: بأنها "بين الرصاصة والقذيفة، تنتظر الموت، فأنا كامرأة في حالة قلق دائم على عائلتي، نحن في حالة نزوح دائم، نبحث عن الأمان ولا نجده، تفاصيل صغيرة تخص الحياة أصبحت موجعة ومؤلمة، لا خصوصية لنا كنساء عدنا للعصر البدائي في قضاء حاجاتنا، شعور بمنتهى البؤس والأسى، فقدة الكثير من أعزائي في هذه الحرب، لا رسالة لدي أوجهها إلى هذا العالم المتفرج على حالنا، فقط أقدم الشكرلمن وقف معنا ودعمنا".

- انتهت حلول الأرض

القصف وتدمير المنازل أجبر النساء والفتيات على النزوح والبحث عن مأوى في أماكن مكتظة مثل المدارس والمستشفيات، ما يحد من الخصوصية ويزيد من العنف والنزاعات بسبب نقص الموارد، كما يواجهن صعوبة في الوصول إلى المرافق الصحية والاحتياجات الأساسية، ما يؤثر على كرامتهن وصحتهن الجسدية والنفسية، ويزيد من الضغط النفسي والجسدي الذي يؤثر على جودة حياتهن بشكل عام.

تقول أسمهان أبو عوكل متزوجة وأم لخمسة أطفال، نزحت مع عائلتها داخل شمال غزة 5 مرات، وتقيم حاليًا في منزل مشترك مع عائلات أخرى تضررت من القصف: "الإقامة مع عائلات أخرى في نفس المنزل أثر على نمط حياتنا وطبيعة الطعام وحتى النظافة الشخصية، مررنا بليالٍ صعبة جراء القصف الإسرائيلي، في إحداها خرجنا بالرايات البيضاء أمام الجرافات الإسرائيلية ومع ذلك أطلقوا علينا النيران ولم يستجب الصليب الأحمر لنداء استغاثتنا".

وتضيف أبو عوكل: "ابني البكر ثانوية عامة خسر عامه الدراسي رغم أنه من المتفوقين وباقي أطفالي فقدوا تعليمهم، من ثلاثة شهور لم نستلم أية معونة، الغلاء فاحش حتى في مواد المساعدات".

بتنهيدة عميقة وبدعاء، تقول: "يا رب نريد أن ننجو بأرواحنا فقط، انتهت حلول الأرض ولم يتبق أمامنا إلا تدخل السماء فقدنا الأمل ولكن ننتظر رحمة ربنا".

- أصبحتُ الأم والأب في خيمة!

تقول أم جميل أبو عيد: "فقدت زوجي في الحرب، تركني مع  أطفال أكبرهم 15 عامًا وأصغرهم سنة وثلاثة أشهر، أصبحت الأم والأب في زمن حرب الإبادة التي أخذت زوجي منا، والآن أعيش أنا وأبنائي في خيمة، الحذاء لا نستطيع توفيره وكيف نوفره، ما أصعب ان نحتاج السند ولا نجده، كنت أحلم أن أعود إلى منزلي في مدينة غزة بعد أن نزحنا منها إلى دير البلح وسط القطاع، الله يقويني على تربية أبنائي، أمنيتي أن تتوقف الحرب".

 - نزوح الشتاء والصيف!

180 ولادة تحدث يوميًا في قطاع غزة، وأكثر من 52 ألف حامل، معرّضات للخطر نظرًا لانهيار النظام الصحي، ما أدى إلى حالات إجهاض تصل نسبتها إلى 300%، حسب الأمم المتحدة.

تخوض نساء غزة تجارب مؤلمة يوميًا، حيث شدّدت منظمات أممية على أنّ 95% من نساء غزة وخاصة الحوامل منهنّ والمُرضعات، يواجهن سوء تغذية حادًا، ما يؤثر سلبًا على حياتهنّ وأجنتهنّ.

تقول آلاء أبو صفية من شمال غزة، استشهد ابنها في الحرب وعمره سنة وثمانية أشهر: "استشهد كل أشقائي وأمي وبقيت أنا ووالدي وزوجي، نعيش حاليًا في مدرسة للإيواء في مدينة غزة، خرجنا من تحت ركام منزلنا الذي قصفه الاحتلال، جوع وتشرد ونزوح مستمر، لا يوجد استقرار في أي جانب".

وتضيف: "أنا حامل في الشهر السادس وأفتقد للطعام والمياه النظيفة والأدوية والمتابعة الطبية، الحرب طالت والوضع كارثي وننام ولا نعلم غدًا إن كنا سنصحو"، مشيرةً إلى أن حلمها كان قبل الحرب أن تعيش في منزل، واليوم حلمها أن تعيش فقد، فوالدها وزوجها أصيبا في الحرب".

- دموع لم تطفئ حريق الخيمة!

تتجرع النساء الفلسطينيات في غزة مرارة الحرب، ويخاطرن بحياتهن في سبيل إطعام أطفالهن، ثقلت المسؤوليات على أكتافهن بعد استشهاد أو اعتقال أو الاختفاء القسري للزوج، حيث تتحول المرأة في لحظات إلى الأم والأب في ظل حرب ضروس تستهدف كل تفاصيل الحياة على طول القطاع الفلسطيني وعرضه.

تقول أم الشهيد محمد الوادي: "أنا أم لسبعِ بنات وزوجي أصيب في الحرب، خيمتنا احترقت في محرقة ساحة مستشفى شهداء الأقصى الأخيرة، بناتي تضررن من الحريق، نجونا بأعجوبة، نزحنا أكثر من مرة حتى استقر بنا الحال في دير البلح، نحن اليوم نعيش فوق خيمتنا المحروقة بلا أي شيء".

في لحظة بكاء بحرقة تضيف أم محمد: "كان عيد ميلاد ابني محمد الذي يبلغ من العمر 24 عامًا، واليوم هو شهيد، لم أودعه ولم أدفنه، كان هو سندنا والمسؤول عنا، واليوم أنا مع بناتي وزوجي المصاب وحيدة بلا معيل ولا خيمة ولا حتى فراش للنوم، نشحذ الملابس وأبسط حقوقنا مفقودة، أنا أم قلبها محروق، الحرب أخذت كل ما هو عزيز علينا".

 - "إن الله مع الصابرين"

تتفاقم صعوبات النساء في ظل نقص الغذاء والماء النظيف وأهم احتياجاتهن الشخصية، ومع  ذلك يواصلن رحلة البحث عن الطعام وإعالة الأسر وحماية الأبناء.

تقول آلاء أبو صلاح من شمال غزة: "كل شيء في حياتنا تغير، على المستوى الصحي والاجتماعي والنفسي تدمر وانقلب 360 درجة، نحن نعاني اليوم من الأمراض المتعددة نتيجة سوء التغذية وانعدام المياه النظيفة وانعدام العلاج، ونقيم اليوم في منزلي الذي تضرر بفعل القصف الإسرائيلي، عانينا ونعاني من ليالٍ صعبة والصواريخ تنزل فوق رؤوسنا، والقصف من كل جانب".

وتؤكد أبو صلاح: "نحن كنساء نعاني نقصًا في كل شيء حتى في احتياجاتنا الشخصية، لا نحصل على المساعدات، لأنها تباع بأسعار خيالية، حتى ما يسمى بالكوبونة الصحية التي يتم توزيعها من خلال التنمية الاجتماعية نسمع فيها مجرد سمع".

وتضيف "أبسط حقوقنا ومنها الاستحمام نحصل عليه مرة في الأسبوع وتكون عملية صعبة جدًا لصعوبة توفر المياه، والمياه الحلوة صعب الحصول عليها في شمال غزة، عدا عن عدم الاستقرار وجهوزيتنا الدائمة للنزوح في أية لحظة، متمنيةً أن تنتهي الحرب، وأن تخرج هي وعائلتها سالمين والحمدلله على كل شيء".

- ركام منزلي أفضل من خيمة النزوح

28.524 إمرأة من قطاع غزة فقدت وظيفتها ومصدر رزقها ممن يعملن بأجر من أصل 200،000 وظيفة تم فقدانها في القطاع خلال الحرب، كما تقدر معدلات البطالة بين النساء في القطاع بأكثر من من 94%، وفي ظل زيادة عدد النساء اللواتي فقدن المعيل زادت الاعباء الاقتصادية على كاهل النساء وأصبحن يتحملن أعباء إضافية كانت حكرا على الرجال، وفق البيانات الصادرة عن وزارة شؤون المرأة.

تقول الناشطة والصحفية كاري عبد الله ثابت من شمال غزة: "رفضت الخروج من غزة كوني صحفية وأريد أن أنقل للعالم ليرى ما يحل بوطني وبلدي غزة الأقرب إلى قلبي، نزحت قسرًا بعد قصف منزلي وتدميره ولم نتمكن من أخذ أي شيء منه سوى البطاقة الشخصية، نزحت مجبرة إلى منزل أهلي والحسرة في قلبي، عشت رحلة شقاء وتعب وجوع، وانهرت ولكنني بقيت قوية حتى أكون بجانب من يحتاجوني".

وتضيف: "ذهبنا إلى رفح ونزحنا منها أيضًا تحت نيران القصف، نجوت أنا وعائلتي رغم الخطر الشديد، تغيرت حياتنا إلى أسوأ حال، أنظر إلى حال شعبي المهجر بكل حسرة وألم وسط خذلان قاتل، جُعنا ومتنا وتشردنا وتعذبنا، كل يوم أنقل المشهد لعل هنا من يسعفنا قبل أن نودع هذا العالم الأصم، ولكن يبقى خروجي من منزلي في مدينة غزة الكسرة العظيمة بقلبي وأتمنى العودة إلى ركام منزلي".