الشاعرة والكاتبة الفلسطينية نهى عودة


يعيش الإنسان بين واقعه وخياله، وما إن تخمر لديه فكرة الحب أو الحرب أو المبدأ أو أفكار سياسية واجتماعية.. يذهب بعيدا فيصرِّح بها ويمنحها شكلا مُورقا على الجدران، ويقول للملأ: أنا هنا، كنتُ هنا ومررتُ بالكثير من الأحداث. وتُعتَبر هذه الظاهرة كنوع من الفن عند البعض بينما البعض الآخر يعتبره تشويها.. لكن الكتابة على الجدران بجميع أحوالها تعكس ثقافة الشعوب وطريقة تفكيرهم وآرائهم. بعض الكتابات على الجدران تُعبِّر عن مشاعر الحب أو الفرح أو الحزن.. وقد تكون كتابات إبداعية تجمِّل الطّرقات وتمنح المارة جمالا لا ينفذ.
يقول الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أغامبين" أن "الغرافيتي يمثّل نوعًا من التعبير السياسي والفني الذي يتحدى الفضاء العام والسلطة"، بينما يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "جان بودريار" أن "الغرافيتي نوع من التمرّد ضد الهيمنة الثقافية والإعلامية".
 
الكتابة على الجدران.. عابرةٌ للعصور

ان الكتابة على الجدران تعود إلى عصور قديمة جدا حيث يرجع هذا الفن إلى آلاف السنين، امتدّت جذوره وأصوله وطُرق تطوّره إلى أن وصل إلى زمننا هذا كنوع من التعبير لا يكاد يخلو من بلد على سطح الأرض. لقد كان القدماء يكتبون على جدرانهم وينقشون حكاياتهم، وهذا ما رأيناه وعايشناه من خلال علماء الآثار الذين لم يتوقّفوا عن اكتشاف الحضارات ودراسة عوالمهم وماهية طُرق عيشهم. لم يكن الأمر مقرونا بعصرٍ مُحدّد بل مُذ تطوّر الإنسان في طُرق معيشته واستخدام سُبل وجوده وحضوره الإنساني والأغلب تأريخه له.يُ

عتبر النّقش والرّسم وصور الحياة اليومية من أبرز وأقدم الأمثلة على الكتابة على الجدران، وهذا يلغي فكرة المرور عليه كفكرة شعب تمرّد هنا، أو عشق هناك، أو كتابة ألفاظ نابية ليس أكثر!

لقد قام الإنسان البدائي برسم ونقش أشكال حيوانات وصور الحياة اليومية على جدران الكهوف. ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك كهوف "لاسكو" في فرنسا، وكهوف ألتميرا في إسبانيا، والنقوش في مصر القديمة فقد استخدم المصريون القدماء الكتابة الهيروغليفية على جدران المعابد والمقابر لكتابة نصوصهم الدينية والسجلّات التاريخية.

وجدت كتابات ورسوم على جدران المباني في "بومبي" المدينة الرومانية القديمة التي دفنتها ثورة بركان فيزوف عام 79 ميلادية. تضمنت هذه الكتابات رسائل شخصية، شعارات سياسية، ورسوم فكاهية. كما وُجدت نقوش تعود إلى العصور الوسطى حيث كانت تلك النقوش والرسوم على جدران الكنائس والقلاع تعبّر عن أحداث تاريخية أو دينية.

هذه الأمثلة تُظهر أن الكتابة على الجدران كانت وسيلة تعبير معروفة ومستخدمة عبر التاريخ البشري ووسيلة للتعبير عن الحياة كنهجٍ إنساني صحي تطوّر عبر الزمن.

"حمود الصاهود" والجدران الناطقة 

يتحدّث "حمود الصاهود"، وهو باحث مُهتم بالأدب العربي والثقافة، في مقدمة كتابه "الجدران الناطقة" وهو "عبارة عن دراسة لظاهرة الكتابة على الجدران في مدينة الرياض"، الذي يعرض فيه تاريخ وأهمية هذه الظاهرة في المجتمع العربي والإسلامي على مرّ العصور، حيث  يشير إلى أن الكتابة على الجدران كانت تُستخدم لتزيين القصور وأماكن العبادة، وأن الحضارة العربية والإسلامية قدَّمت إسهامات كبيرة في هذا المجال لا تضاهيها حضارات أخرى. كما يناقش استخدام الكتابة على الجدران في مقاومة الأفكار السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، مثل استخدام "مارتن لوثر" لها لمقاومة استبداد الكنيسة الكاثوليكية. ويستعرض أيضًا كيفية استغلالها للإعلانات التجارية والترويج للأحزاب السياسية ونشر الأفكار المختلفة.
 
وفي مقدمة كتابه، يقول "الصاهود" أيضا: إن كان (للحيطان آذان) كما سار في المثل، ‏فإن لسانها أقدم، وبيانها أفصح، وهي تجيد الكلام أكثر من إجادتها الاستماع؛ فطالما نطقت بأصوات الناس عبر التاريخ، فكانت صراخ الذي لا يستطيع الصراخ، وتنهيدة العاشق الذي لا يقوى على الكتمان، وكانت الجدران ميدانًا لشكوى الغرباء، وظرف الظرفاء، وعبث الأشقياء، اختلفت مشاربهم وثقافتهم وعصورهم وشخصياتهم وطبقاتهم وأدوات كتابتهم لكن وحّدهم هذا الجدار الذي تسمّروا أمامه، فمنهم من يحفر وينقش، ومنهم من أشعل ناره وأمسك بفحمته، حتى نصل إلى عصرنا الذي شهد تنوعًا كبيرًا في أدوات الكتابة على الجدران، فهذه الظاهرة سلسلة امتدت عبر عصور طويلة، منذ أن عرف الإنسان أن هذا الفعل شكل من أشكال الخلود، فالكتابة والنقوش هي التخليد الأول للصوت البشري".

كتابة الجدران والرئيس "ياسر عرفات"

القائد الشهيد "ياسر عرفات" (أبو عمار) عُرف بحنكته وفطانته واهتمامه بما يكتب على الجدران، في محاولة منه لاستنباط آراء الناس، وما يدور في فكر شعبه أو حتى الشعوب في البلاد التي استضافت الفلسطينيين في فترة السبعينات والثمانينيات من العصر الحالي، يقول "كريم بقرادوني"، وهو سياسي ومحامي لبناني، "من صبرا إلى الأشرفية، كانت المرة الأولى التي يدخل فيها ياسر عرفات الشق الشرقي في بيروت بلا حرّاس ولا ترتيبات أمنية مسبقة، وخلافا لإحساسي بالتهيُّب كان أبو عمار على درجة عالية من الارتياح. عندما دخلنا الأشرفية أصرّ أبو عمار على أن نقوم بجولة ليرى بأم العين أخبارها الداخلية، في حين كنت راغبا في اعتماد أقصر الطُّرق للوصول إلى المكان الموعد. نزلت عند رغبته وجلنا في الأشرفية ولاحظ أبو عمار شعارات على الحيطان بينها شعار يقول (لا لسوريا)، فقال الياسر لبقرادوني: يا كريم هذه الشعارات لا تفيد، التعبئة النفسية أخطر من التعبئة العسكرية فانتبهوا".

الكتابة شكل من أشكال التّخريب 

يعتبر الكثير من المهتمين بالشؤون التعليمية أن الكتابة على الجدران شكل من أشكال التخريب والمساس بالشارع وحرية الناس ولا سيما عندما تكون هناك عبارات تخالف تطلعات المجتمع وتوجهاته أو ألفاظا نابية، كما أنهم يعتبرونها أملاكا خاصة بالدولة لذلك تطلعوا إلى أسباب الوجود وطرح الحلول باعتبارها آفة تفتك بالمجتمعات.
 
كما ذهب بعض المهتمين إلى تبنّيها على أنها ظاهرة حديثة الوجود في عوالمنا العربية الإسلامية، وهي سلوكيات غير سوية ومستهجنة، وليست سوى تصرّفات طائشة نتيجة الفراغ الذي يعاني منه العديد من الشباب، وخصوصا المنقطعين عن الدراسة، أو الذين لا يمارسون هواياتهم.

دوافع الكتابة على الجدران عند الرأي المعارض

يقول موجِّه التربية الإسلامية "عاطف محمود" في مقال نشره على موقع "البيان"، "إن عدم اهتمام الوالدين بتربية أبنائهم يؤدّي إلى تنشئة فرد غير ملتزم بالأخلاق وآداب النظافة للمجتمع الخارجي، وبالتالي سيؤثّر ذلك على رفاقه بشكل سلبي، فيسيؤون التصرّف، ولا يحترمون الأنظمة والقوانين. إن وجود مشاكل عائليّة، وعدم المبالاة بمشاعر الأبناء.. ممّا يؤدّي إلى التعبير عن تلك المشاكل بشكل سيء، كالكتابة على الجدران. كما أن وجود مشاكل بين الشباب، يؤدّي إلى اتّخاذ أسلوب الكتابة على الجدران للسبّ والشّتم وتفريغ الأحقاد والكره، وهذا يُعدّ سببا خطيرا؛ نظرا لسوء ما تتم كتابته على الجدران. كما أن هنالك من يذهب للإيقاع بأشخاص آخرين من خلال التشهير بهم، وفضح الأسرار العائليّة نتيجة شحنات مكبوتة داخلهم، تدفعهم للتصرّف بهذا الشكل".
يُضيف الكاتب قائلا: "إن الأسباب الاجتماعية تؤثِّر في شخصية الفرد عند محاولته تقليد أبناء جيله الذين يسلكون ذات السلوكية مع انعدام وجود الرادع الأخلاقي أو القانوني والعقلي لإيقافهم أو الحد من مثل هذه السلوكيات غير الحضارية والتي تعطي انطباعا للمراقبين ومنهم الوافدين عن مدى غياب الذوق الجمالي يصاحبه انعدام أو ضعف للقانون العام في البلد".

جمهور فتاوى التّخريب والتغيير

يرى قسم كبير من المهتمين بالشأن الاجتماعي أن هذه الظاهرة هي ظاهرة مَرَضية وعليهم معالجتها، ناهيك عن وضعهم الكثير من الآراء وتبنّيها، وإقامتهم للعديد من الندوات حول هذا الموضوع، ومطالبتهم بإعادة توجيه سلوكيات الأطفال من خلال دراسة الدوافع وإعطاء الأشخاص فرصة تفريغ انفعالاتهم والتعبير عن آرائهم حتى لا يضطروا إلى جعل هذه الأماكن منصّات للتعبير عن المكبوت.

وينبغي أن تأخذ المؤسسات التعليمية والإعلامية وجميع المنظّمات دورها في التثقيف ضدّ هذه الظاهرة، وكبح جماح السلوك العدواني الذي يعمد إليه الأفراد من خلال هذه الكتابات التي لا تسمن ولا تغني من جوع وليس لها أثر غير ذلك الأثر التشويهي التخريبي. كما طالبوا بوضع كاميرات المراقبة في الأماكن المُعرّضة لمثل هذه الانتهاكات لرصد مَن يقومون بالكتابة واستقدامهم ومعاقبتهم بغرامات مالية، أو إجبارهم على طلاء هذه الجدران أو تنظيفها كي لا يعاودوا الكتابة مرة ثانية وهي أحد طرق العلاج الناجحة.
 
أعذب العبارات التي كتبت على الجدران الفلسطينية في الوطن والشتات
 
عباراتٌ على الجدران عن فلسطين
 
- اخلع نعليك فترابها من دمائنا
- تقنعنيش بالاحتلال عقلي كله مقاومة
- هذه الأرض لا تتسع لهويتين إما نحن أو نحن
- عزيز أنت يا وطني
- يا وطني الرائع يا وطني
- الشهيد مرّ من هنا
 
عباراتٌ عن العشق الفلسطيني
 
- أنت جميلة كوطن مُحرّر وانا متعب كوطن محتل
- ابتسمي فالقمر يحتاج إلى منافس
- في عينيك ثورة
- باقي بقلبك مش راحل وخاوة كمان
- أحبك حب الوطن لدم الشهيد
- عيونك بس تضحكي بيشبهوا حيفا

 

اسمع نبض الناس من حديث الجدران

هذه الوسيلة التي تعبِّر عن الشعوب وما يدور في رأسها ما هي إلا محبّة أو عتب على قدر محبة الوطن، مهما اختلفنا مع العبارات لكنها تنبض حبًّا وحنينا لأناس عافت الظلم وتعبت منه، وأناس أرادت أن تعبِّر عمّا في قلبها من حب أو غضب، أما أنا فأجمل ذكرياتي تلك التي نقشتها في أماكن مختلفة لتثبيت وجودي وإني أؤمن بهذا الفن وهذه المشاعر وإن لم يعلم حرفي الأول من المكتوب أيّ أحد.