من لا يتعلم من دروس التاريخ سيبقى أمي وساذج، ولا يفقه في علم السياسة، حتى لو تقلد أهم المناصب السياسية في هذه الدولة أو تلك. لأن إبداع القادة لا تنحصر في إدارة دفة الصراع، ولا في تدوير الزوايا، وتحييد القوى السياسية الأخرى او الرأي العام في أوساط الجمهور المستهدف، إن لم يكونوا معه، على طريق استقطابهم، ولا الاستمرار في الإمساك بتلابيب صناعة القرار لسنوات طويلة لاسباب ذاتية وموضوعية، وإنما بالسعي الدائم لاستلهام دروس تجربته، ودورس التاريخ، ودورس من سبقوه ومن عايشوه من حكام الإقليم والعالم، ومحاولة إغناء تجربته الذاتية من كل ما تقدم، والتخلي عن سياسة "عنزة ولو طارت"، والكف عن نهج الغطرسة والغرور والاستقواء بكرسي الحكم، وإبقاء بوصلته متجهة نحو الشعب دون الخضوع للعواطف والشعارات الغوغائية والعنتريات، التي تسرع في غرق الحاكم مطلق حاكم في متاهة العبث والضياع وتضييع البلد. 


وبالنظر لتجربة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بز رئيس الوزراء الأول لأول حكومة إسرائيلية، ديفيد بن غوريون في التربع على سدة الحكم، في العلاقة مع الشعب العربي الفلسطيني، نجد أنه لم يستوعب درسًا واحدًا من دروس الصراع الممتد على مدار قرن من الزمان مع الحركة الصهيونية، و75 عامًا منذ إنشاء إسرائيل على انقاض نكبة عام 1948، حيث اعمت بصيرته الاستعمارية الإجلائية والاحلالية، وغطرسة القوة المستمدة من أسياده في الغرب الرأسمالي بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة، وتآكل المسؤولية الدولية في إغفال وتهميش القضية الفلسطينية طيلة العقود الماضية، وعدم ارتقاء الأقطاب الدولية لمستوى المسؤولية لتطبيق قرار التقسيم الدولي 181 الصادر في نوفمبر 1947 واستقلال دولة فلسطين، وهذا ناجم عن ضعف الأداء الرسمي العربي بشكل عام. رغم أن الأنظمة الوطنية والقومية بزعامة الرئيس الخالد جمال عبد الناصر خلال مرحلة النهوض القومي لعبت دورًا مهمًا، لكنها اصطدمت بعقبات ذاتية وموضوعية، لكن غير ذلك كان النظام السياسي العربي دون مستوى المسؤولية القومية لاعتبارات تتعلق بالدول والاقليم وتبعية العديد منها للغرب الرأسمالي صاحب المشروع الصهيوني. 


بيد أن كل التعقيدات التي واجهت القضية والقيادة الفلسطينية مع انطلاق شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع العام 1965 وصعودها، وتحقيقها للعديد من الإنجازات الوطنية وتولي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد قيادة الثورة، إلا أن العقبات المتوالدة على المستويين الإقليمي والدولي حالت دون تحقيق اهداف الثورة. لكنها لم تفت في عضد الشعب العربي الفلسطيني وتمسكه بثوابته الوطنية وعلى رأسها استقلال الدولة الفلسطينية والعودة للديار التي طرد منها وحق تقرير المصير. ولم ينجح الأعداء إسرائيل وسادتها في الغرب الرأسمالي بقيادة واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية في طمس القضية الوطنية، او تصفية حق العودة، وتحطمت كل مشاريع التوطين الصهيو أميركية، التي شرع العمل عليها منذ عام 1949، ومازالت حتى الآن تعمل قوى معسكر الأعداء على تكريس بعضها مستفيدة من جملة التحولات الكيفية في الوطن العربي بعد صعود إدارة الرئيس دونالد ترامب السابقة وطرحه صفقة القرن المشؤومة. 


والآن في زمن حرب الإبادة الصهيو أميركية على قطاع غزة منذ 82 يومًا تحاول حكومة الحرب الإسرائيلية بقيادة نتنياهو النفاذ من بين أنيابها المفترسة لقهر الشعب الفلسطيني، وارغامه على التهجير القسري من أرض وطنه الأم فلسطين إلى منافي جديدة، معتقدًا الملك الصهيوني الفاسد والفاشي من إمكانية تحقيق ما لم تحققه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة طيلة ال75 عامًا الماضية، ومفترضًا أن إمكانية نجاح عملية التطهير العرقي للفلسطينيين قابلة للتحقق نتيجة ادماء قلوبهم، واستباحة الدم الفلسطيني، كما لم يستبح من قبل. وتجاهل هذا المتغطرس والقاتل للأطفال والنساء والشيوخ تعاظم تمسك أبناء الشعب الفلسطيني باهدافهم الوطنية كلها، وفي طليعتها العودة واستقلال الدولة وعاصمتها القدس الشرقية مهما كان حجم التضحيات. 


ولهذا عاد نتنياهو اول امس الاثنين الموافق 25 ديسمبر الحالي أمام كتلة الليكود في الكنيست وأكد على تمسكه بخيار التطهير العرقي والتهجير القسري للفلسطينيين لدول العالم المختلفة، وتناغم معه العديد من اقطاب حزبه، فضلاً عن أقرانه في الائتلاف الحكومي، ومنهم عضو الكنيست، داني دنون، الذي ادعى عن استعداد دول من أميركا اللاتينية وأفريقيا لاستقبال لاجئين فلسطينيين مقابل المال. وتجاهلوا تاريخ الصراع المرير على مدار العقود الثمانية الماضية، وتعاظم تمسك الفلسطينيون بأرض وطنهم الأم، وحقهم في العودة وتقرير المصير. وهو ما يعكس غيهم وجهلهم وعدم تعلمهم من دروس التاريخ والصراع الضاري، وبدل أن يذهب إلى جادة السلام الممكن والمقبول خيار حل الدولتين على حدود الرابع من يونيو 1967، وينقذ دولته اللقيطة من دائرة الفناء والانتفاء من الجيوبوليتك، تخندق في خنادق الايدلوجيا الصهيونية الرجعية والهدامة، وأغمض عينيه كليًا عن الحل السياسي المنسجم مع قرارات الشرعية الدولية. 

ولا أعرف أن كان نتنياهو واضرابه من النازيين الصهاينة وسادتهم في الغرب يدركوا حقيقة راسخة جسدها الفلسطينيون في المهاجر والمغتربات والشتات تعمق تمسكهم بهويتهم الوطنية وأهداف وثوابت شعبهم، ورفض أبناء الشعب المتجذرون في أرض الوطن الاستسلام والأنحناء أمام قوة وجبروت همجيتهم ووحشية عمليات القتل والإبادة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، والتشبث بأرض وطنهم الأم فلسطين مهما كانت التضحيات الجسام التي دفعها ويدفعها من دم أطفاله ونسائه وشيوخه، ورفض التهجير والتوطين، وبالتالي أنصحه أن بقي يومًا على كرسي الحكم بعد انقشاع غبار حرب الأرض المحروقة، أن يراجع سياسته النازية ويقبل بخيار السلام الممكن والمقبول. لكني اشك ببقائه، أو مراجعته لدروس التاريخ المعاصر.