للبيت وظائف عديدة لا تنتهي، يؤديها بصمت وبأدوار معنوية تتكامل مع أدواره المادية، وقد يؤدي أي بيت دور الحماية المادية كالأمن والمسكن، لكن الأهم أنه يمنح الحماية المعنوية، أي الشعور بالأمان، فتصبح جدرانه حداً فاصلاً بين عالمَين: في الخارج حيث التعب والضجيج والخوف والقلق، وفي فضائه الداخلي الراحة والسكينة.
وإضافة إلى كونه الحاضنة الأهم للرابطة الأسرية، هو في جوهره بمثابة عالَم مصغّر فيه القليل من كل ما في العالم الكبير: الأفكار والمشاعر وأنماط الحياة وإيقاع العصر وكل ما يلبي حاجاتنا ورغباتنا، وما ينتجه ويخترعه العالم.
والبيت يمنحنا الألفة والشعور بالدفء من خلال العاطفة والعادات اليومية والعلاقات الأسرية التي تُضّخ فيه؛ فالبيت مهما كان بديعاً وفخماً من دون تفاعل سكانه يصبح مجرد كتلة من الجدران الصماء والأثاث البارد.
ويكون البيتوبيتاً بسكانه؛ بحركاتهم وأنفاسهم وسهراتهم، بفوضاهم وحميميتهم، بألعاب أطفالهم، وشقاوتهم، بصمتهم وصخبهم، بنقاط ضعفهم الإنسانية، وممارساتهم اليومية غير المقيدة.  


وإذا كنت خارج البيت مقيداً بضوابط وقوانين ومحاذير معينة، فإن البيت يمنحك الحرية، وإمكانية التصرف كما يحلو لك، والتحرك داخله، وممارسة عاداتك وطقوسك الشخصية، وجنونك وكسلك، وتكوين أفكارك وعيش أسرارك الخاصة دون تدخل من أحد.
والبيت هو الذي يخلق الذكريات، ويحفظها.. فهو المكتبة، وألبوم الصور، والهدايا، والرسائل القديمة، ومسلسلات التلفزيون، وفناجين الشاي المزخرفة المخبأة في «النملية».. وهو الحنين إلى مدارج الصبا، وعنفوان الشباب.. هو صوت الآباء ورائحة الأمهات المخزّنة في ثناياه.. لذا يظل البيت الأجمل بالنسبة لنا هو بيت الطفولة، مهما كان متواضعاً. والبيت ليس بجدرانه وأسواره، هو أيضاً الجيران، والحارة، والحاكورة، والدكان الذي يبيعك بالدين ويصبر عليك، والجار الذي يزورك قبل الأقارب، والزقاق الذي يلعب فيه أطفالك.
وللبيت دور جمالي، في تصميمه الداخلي والخارجي، ولو تأملت الكثير من محتوياته وأثاثه ستجد أنها مسألة جمالية وحسب، وهذا الجمال (أو الفراغ) ينعكس على نفسيات ساكنيه.. فالبيت مرآة لشخصياتنا.


والبيت صنو الوطن، وصورته المكثفة، وتجسيده المادي والمعنوي، وقد اختصر محمود درويش المسألة بقوله: أريد جداراً أعلق عليه معطفي.
والبيت قصة حب كاملة، وإن كانت غير مكتوبة.. والبيت بساكنيه؛ فلو كان قصراً منيفاً وهجره أهله، سيهرم سريعاً، وستختنق أبوابه شوقاً في انتظار من يقرعها، إلى أن يتهاوى جثة هامدة.
أكثر من يقدّر قيمة البيت وأهميته أولئك الذين فقدوه، خاصة ضحايا الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية.. وأسوأ جرائم الحرب هدم البيوت.. وقد هدمت إسرائيل عشرات آلاف البيوت إبان النكبة، وأحالت ساكنيها إلى لاجئين يبيتون في الخيام. وخلال نصف قرن من احتلالها الضفة الغربية هدمت أكثر من 25 ألف منزل فلسطيني بشكل كامل.  
وما زالت إسرائيل تواصل الهدم، فكل من يشارك بأعمال المقاومة في الضفة تعتقله أو تقتله ثم تقوم بهدم منزل عائلته، وتمنعهم من إعادة بنائه، وإذا قاموا ببنائه تهدمه من جديد.  
والمأساة الكبرى حين يُجبر الإنسان على هدم بيته بيديه، كما تفعل سلطات الاحتلال مع سكان القدس، فإما أن تهدم بيتك بنفسك، أو تهدمه بلدية الاحتلال بجرافاتها وتجبرك على دفع تكاليف الهدم، بما في ذلك ثمن وجبة الغداء، وتكاليف المرحاض المؤقت الذي سيستخدمه سائق الجرافة أثناء الهدم.. هل هناك قهر أكبر من ذلك؟  


في الحرب العدوانية على غزة، عاش أهلها مآسي من مستوى آخر، فوق طاقة البشر، تجرعوها بصبر وجرح مكابر.. فقد هدمت إسرائيل أزيد من مائتي ألف منزل وشقة سكنية.. كل بيتٍ تهاوى بصاروخ أحاله ركاماً بنفس سرعة سقوطه.. هكذا بكل بساطة، بعد أن يمضي الفلسطيني كل عمره في بناء بيته، حجراً حجراً، ومدماكاً فوق مدماك، أو في تسديد ثمن شقته، أنيناً أنيناً، وقرشاً فوق قرش، بعد أن يبيع مصاغ زوجته، وينفق كل مدخراته، ويتخلى عن كل مباهج الحياة، ويحرم نفسه وأطفاله من متعها، وبعد سنوات طويلة على الانتظار، فجأة وبلمح البصر ينهار بيته دفعة واحدة.. يروح كل تعبه، وتموت أحلامه، وتنهار أمانيه.. ولا يجد عزاء إلا في نجاته ونجاة أسرته. وفي أحيان كثيرة لا ينجو أحد.
في هذه الحرب، كما هو الحال في كل الحروب، أُجبر الناس على ترك بيوتهم، لأنها معرضة للقصف في أي لحظة، خرجوا هائمين على وجوههم بحثاً عن أي مكان أكثر أمناً، وحينما خرجوا سألوا أنفسهم: ماذا سنحمل معنا؟ الصور القديمة؟ ألعاب الأطفال؟ الرسائل الحميمة؟ المقتنيات العزيزة؟ أم نكتفي ببعض المعلبات وما خف وزنه من أغطية وملابس؟
كيف ألقوا نظرة الوداع الأخيرة على بيوتهم وهم موقنون بأنها النظرة الأخيرة؟


لجؤوا إلى مركز الإيواء في الجنوب، حيث مئات الآلاف من النازحين، وجميعهم فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم، فلم يعد شارع ولا بيت في غزة إلا وطاله القصف، وقد نفدت المؤونة، وشحّت المياه، وأنهكهم الجوع، واستفحلت الأوبئة، وصارت الحياة جحيماً.
ثم يأتيك من يقول: «البيت بتعوّض».. والحقيقة أن البيت لا يعوض.. تماماً كما كتب الصديق محمود جودة من قلب غزة: «بيوتنا مش مال معوّض، بيوتنا فيها تفاصيل حياتنا اليومية بكل هدوئها وصخبها وروتينها وهمسنا، وريحتنا وذكرياتنا وهدايانا، وكُتب أولادنا وملابسنا، وألبوم الصور وأسرارنا الصغيرة الهبلة. بيوتنا مش من حجر، بيوتنا منّا، من لحمنا وتعبنا وأحلامنا، وعمرها ما بتهون ولا بتتعوض، ممكن تبني غيرها (على صعوبة الفعل)، بس عمرك ما راح تعوض اللي كان، لأنه البيت مش مال معوّض، البيت حضن من الطمأنينة ورائحة صعب جداً تعيد تركيبها.. ولسان حالنا وحال بيوتنا يقول: بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر».