وبينما تتبدد آمالنا في وقف العدوان أمام تفكير الطغاة بتوسيع نطاق حربهم العدوانية بكل المنطقة، ودخول عدوان الإبادة الجماعية الإسرائيلي على غزة الآن شهره الثالث، وكذلك جرائمهم بالضفة الغربية بما فيها عاصمتنا القدس، فإن الظروف القاسية التي يعيشها شعبنا الفلسطيني تحت وطأة الجوع ونقص مياه الشرب والأمراض المعدية والتشريد والخوف من موت القصف البربري، يستمر في التفاقم مع تقديم الإدارة الأميركية وبدعم من بعض حكومات الاتحاد الأوروبي المساندة لعدوان الإبادة الذي تنفذه إسرائيل "القوة القائمة بالأحتلال والتمييز العنصري" المستمر على أبناء شعبنا في غزة المحاصرين والمشردين إلى حد كبير ، في الوقت الذي تحتج وتتظاهر فيه الشعوب وقواها التقدمية في أوروبا والولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم تضامناً مع شعبنا الفلسطيني وقضيتنا العادلة ورفضاً لحرب الابادة الجماعية ، من أجل وقفه الفوري وحماية شعبنا.
فمع حلول عيد الميلاد المجيد، اتسعت جرائم القتل والتدمير للبشر والحجر والشجر، وأطلق القناصة الإسرائيليون النار على عدة مئات من المصلين داخل كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية في غزة، بحي الزيتون مما أدى إلى مقتل أم وأبنتها وجرح الطبيب الذي حاول إسعافهم، قبل ذلك تم قصف كنيسة بيرفورياس الأرثوذكسية والمستشفى المعمداني مما أسفر عن مقتل العديد من الأشخاص الذين كانوا يلتجؤن هناك، كما قصف كل المساجد والمدارس وحضانات الأطفال الأبرياء، الأمر كما غيره من فظاعة الجرائم الأخرى كان من المفترض أن يمنع رؤساء كنائس القدس من تلبية دعوة رئيس دولة الأحتلال أمس باللقاء معه بمناسبة الأعياد.
ومع اقتراب الميلاد لم يتمالك أحد الصحافين نفسه وهو يصف كيف سحقت جرافات الاحتلال الإسرائيلية المدنيين المرضى والجرحى الذين كانوا يحتمون خارج مستشفى كمال عدوان شمال غزة، ودفنت بعضهم أحياء وقامت بالتنكيل بالجثث ونبش القبور الجماعية في جرائم بشعة وبعيدة عن أية قيم إنسانية لا تتحلى بها عصابات الأحتلال.
لا أستطيع حتى أن أتخيل كابوساً أسوأ من مشاهد الدمار الهائل المروعة تلك في ذكرى ميلاد أول ثائر فلسطيني ورسول المحبة والسلام ، تلك الصور التي فاقت فظائع النازيين بالحرب العالمية الثانية رغم توحشهم.
إن صور المدنيين الفلسطينيين وهم مجردين من ملابسهم الداخلية أو حتى من دونها، وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم مرعوبين في محاولات إهانتهم واذلالهم ، بعرضهم "كالماشية" من قبل قوات الأحتلال الإسرائيلي البشع في الشوارع ،كما هي صورة اقتياد النساء من مركز إسعاف جباليا إلى جهة مجهولة هي صور غير إنسانية ومثيرة للاشمئزاز على الإطلاق وتعكس صورة الجيش صاحب اخلاق القتل المباشر والحقد الدفين.
والاَن بينما سيذهب المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا في عطلتهم للأحتفال بعيد الميلاد مع عائلاتهم وأصدقائهم وأحبائهم في دفئ منازلهم، فإن عائلاتنا الفلسطينية ستجتمع في خيام باردة أو ملاجئ مؤقتة ترتعش وهي تبكي على موتاها وفقدانهم. وسيظل الكثيرون يبحثون بأيديهم العارية عن أطفالهم ومن يحبونهم الذين ما زالوا تحت الأنقاض والذين تقدر التقارير اعدادهم كمفقودين بعشرات الآلاف. تلك التقارير التي تشير تقديراتها أيضًا إلى أن أكثر من ٢٥ ألف طفل قد تيتموا منذ بدء القصف الإسرائيلي البربري.
لا يمكن لأحد أن يشك في تواطئ هؤلاء المسؤولين في الولايات المتحدة في تأجيج الإبادة الجماعية المستمرة، التي تم ارتكابها ومساندتها فعليًا في الوقت المطلوب، من خلال التصويت لإرسال مساعدات عسكرية إضافية لذبح المزيد من المدنيين الفلسطينيين، حيث ومع وصول هذه الإمدادات الجديدة كما قبلها سابقًا من القنابل والذخائر الأمريكية الصنع ، يبدو أن حرب الإبادة والمجازر التهجير الإسرائيلية التي تدعمها الولايات المتحدة على شعبنا الفلسطيني في غزة ليس لها نهاية في الأفق القريب، بل الرغبة في توسعتها لتشمل اراضي لبنان وكل المنطقة التي يريدون إشعالها. لقد كانت مجازر شعب الله المختار تاريخياً بأسم الرب ومجازر اليوم بأسم الرب وأميركا، لكنها حتما ستنتهي وتنكسر ويبقى أطفال شعبنا ومقاومته كالصبار في حلوقهم ما بقي الزعتر والزيتون.
آمل أن يستيقظوا ويدركوا أن إيمانهم هذا مُحرف ومُزيف وأن صورتهم باتت سوداء، حيث لا ذرة من الإنسانية فيما فعلوه ويفعلوه من حجم الموت والدمار الذي سببته أفعالهم وقذائفهم. إن عدم رغبتهم في المطالبة بوقف فوري للعدوان من خلال استخدامهم الفيتو المشين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ووقف المذبحة قد مكّن من قتل ما يقرب من ٢٠ ألف مدني، ٩٠٠٠ منهم من الأطفال، وإصابة أكثر من ٥٠ ألف شخص بجراح ، وتشريد أكثر من ٢ مليون من السكان الفلسطينيين في غزة، الأمر الذي ترافق مع احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم تنديدًا من جهة أخرى بتلك السياسات الاجرامية المعتادة للبيت الذي يسمى بالأبيض.
لقد كان من الممكن إنقاذ العديد من الأرواح لو لم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض "الفيتو" وتؤجل في محاولة اتخاذ قرار اممي جديد ، وأن تتوقف عن إرسال أسلحة الدمار وبوارجها لأن هيمنتها أصبحت في أفول.
فهل يعتقد السياسيون في الولايات المتحدة وبعض دول الإتحاد الأوروبي الذين ما زالوا يمتهنون ازدواجية المعايير والنفاق وعقلية الأستعمار القديم أن الموت والدمار اللامحدود الذي لحق بشعبنا في غزة هو اعتداء عادل وأخلاقي، أو أنه يخدم مسار سياسي يدعون له؟ أم أنهم يخشون أن يتم اتهامهم بمعاداة السامية ويخسروا مساهمات الأموال اليهودية الصهيونية ومجمعاتها العسكرية والمالية، كما وحملة AIPAC في الولايات المتحدة إذا دعوا إلى وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ومحاسبة إسرائيل؟ كم مرة يحتاجون إلى التذكير بأن التطهير العرقي والإبادة الجماعية هي جريمة حرب؟ وأن لا علاقة بين معاداة جرائم دولة الاحتلال وسياساتها بما يسمى بمعاداة السامية.
في إسرائيل لا يوجد صوت كبير يدعو إلى وقف حمام الدم ، يقول الصحفي اليهودي الإسرائيلي التقدمي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس، "لم نشهد حرباً كهذه من قبل، حرب إجماع كامل، وحرب صمت تام ..."
ولكن بينما يبدو لمعظمنا في الخارج كما قال ليفي، "إنها حرب بالإجماع" ، فمن المهم أن نشير إلى أن المعارضة تتشكل الآن كما تشكلت بين المجتمعات اليهودية بالولايات المتحدة وغيرها من الدول على الرغم من الحملة القمعية العدوانية التي تشنها الحكومة الإسرائيلية على المعارضة حتى ولو كانت قليلة. وقد تعرضت الاحتجاجات في إسرائيل إلى القمع والإسكات والتجريم إلى حد كبير كما تعرضت منظمات يهودية معادية للصهيونية. لقد تعرض العديد من منتقدي الحكومة الإسرائيلية للهجوم والسجن والمضايقة والاستجواب والتحذير من الخطاب أو الاحتجاجات أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تدعوا إلى وقف إطلاق النار ، وكان الصديق الشيوعي الإسرائيلي وعضو الكنيست عوفر كاسيف واحداً من هؤلاء مع رفاقه الآخرين . لقد اَن الأوان بأن يدرك اليهود باسرائيل بأن حكامها لم يوفروا لهم الأمن والأمان والاستقرار في "أرض الميعاد"، بل مزيدًا من إراقة الدماء وتسارع دوامة الصراع التي لن تفضي إلى أي سلام طالما يتنكرون لوجود وحقوق شعبنا الاصلاني الثابت في أرضه وحقه بتقرير مصيره.
وفي حين أن هناك غضباً ومعارضة بين نشطاء السلام اليهود رغم قلتهم الآن، والذين يتوجب عليهم الادراك أكثر بأن عقلية طغمة النظام الأستعماري الحاكم والمتعاقبة عليهم منذ ٧٥ عامًا لن تجلب لهم سوى مزيدًا من الحقد والكراهية ودمار مجتمعهم، فإنهم مع الفلسطينين الباقين في داخل وطنهم الأصلي الذين يعانون من قانون العنصرية والفوقية اليهودية، سيتعرضون أكثر لإرهاب الغوغائين والأرهابين من أحزاب اليمين الصهيوني العنصري القومي والديني.
في الأيام والأشهر المقبلة وحين يددكون ذلك أعتقد بأننا سنشهد معارضة متزايدة في إسرائيل، لأنهم سيكتشفون حقيقة كلفة الاحتلال المتزايدة والمؤلمة لهم خاصة في أعقاب التقارير التي تُنشر اليوم حقائقها عن مخاسرهم وتزايد كراهية شعوب العالم لسياسات دولتهم هذه التي باتت معزولة اليوم وانكشاف طبيعة منهجهم وفكرهم الذي قام على حساب اضطهاد شعبنا الفلسطيني، وسيدركون قريبًا أن من يضطهد شعبًا آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حراً.
وهم اليوم بدأو بالتشظي والتظاهر من أجل الضغط على حكومة نتنياهو لتسريع مفاوضاتها من أجل إطلاق سراح الأسرى وعقد الصفقة اللازمة بالخصوص مع المقاومة ليتحرر مروان وسعدات وعبدالله وكافة مقاتلين الحرية من زنازينهم المعتمة، وأنهاء تورطهم في رمال غزة، على طريق ضرورة ادراكهم بإنهاء احتلالهم الأستعماري.
لذلك لا عيد ميلاد مجيد في أرض المسيح اليوم التي تذرف دمعًا لكن تمتلك الإصرار، فبينما يحتفل الأميركيون بموسم الأعياد ويستمتعون بعيد ميلاد سعيد مع عائلاتهم، وينشغل الأطفال في الولايات المتحدة وأوروبا بالتدرب على مسرحيات عيد الميلاد في المدرسة، فلن يكون عيد الميلاد سعيدًا على الإطلاق في فلسطين مسقط رأس المسيح.
ففي الأرض المقدسة، حيث ولد الطفل الفلسطيني يسوع في مذود بمدينة بيت لحم، وحيث سمعت لأول مرة رسالة المسيح عن المحبة والسلام والرحمة والاهتمام بالمظلومين، يعيش شعبنا صاحب الأرض الأصلاني حياته في خوف يومي تحت وطأة الحصار ووحشية بنادق جنود الاحتلال وجنازير دباباتهم وارهاب المستوطنين المسلحين الذين يرتكبون أعمال القتل بدم بارد، لكن شعبنا يمتلك الارادة على المضي في طريق الحرية والاستقلال.
هذا العام فان بيت لحم التي يسكنها أكثر من ربع مليون فلسطيني محاصرة مثل مدن أخرى في الضفة الغربية الفلسطينية، يكتنفها الظلام والحزن والدموع والعذاب.
هذا العام ألغت كنيسة المهد أحتفالاتها بعيد الميلاد، وأبعدت زينة عيد الميلاد الخاصة بها، وبدلاً من مشهد الميلاد الطبيعي للكنيسة، وضعت الطفل يسوع بين كومة من الأنقاض والحجارة داخل الكنيسة لما يمثله من دلالات.
هذا هو بالضبط معنى عيد الميلاد هذا العام بسبب الموت والدمار والركام في أرضنا، هكذا نستقبل "ملك المجد"، فعيد الميلاد هو حضور الطفل يسوع مع المتألمين. ولو أن المسيح قد ولِد اليوم ، لكان ولدَ تحت الأنقاض وبين الركام الذي بات يغطي شوارع وأزقة غزة التي انكسر على أبوابها الغزاة عبر التاريخ.
أننا ندعوا الغرب المُدعي بحقوق الأنسان والحريات لرؤية صورة يَسوع المسيح في كل طفل يُقتل ويُنتشل من تحت الأنقاض والركام. نعم، احتفالات عيد الميلاد قد ألغيت هذا العام واقتصرت على الصلاة من اجل المستضعفين بالأرض وبالمقدمة منهم شعبنا الفلسطيني. لكن عيد الميلاد نفسه لم ولن يُلغى، لأملنا الدائم بمعاني الميلاد المجيد المتمثلة بالحرية والكرامة والعدالة والسلام، تلك المعاني ومفهوم الميلاد لا يمكن إلغائها من قِبل أي قوة استعمارية أو أي احتلال على وجه هذه الأرض، فرسالة الميلاد باقية كما بقيت واستمرت منذ الفي عام وقهر الاحتلال إلى زوال. ونَنشد مع شعبنا وكل شعوب الأرض في هذه الليلة ترنيمة الميلاد: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها