استوقفني للحظة النقاش الدائر حول استطلاع رأي من «إن جي أوز» بحثية. بصراحة، لم اعرف نتائج الاستطلاع حيث لم أملك الوقت ولا الجهد المناسب ولا «ميزة» البحث لقراءة شيء خارج الدائرة الآن، بل ما استوقفني الترف الزائد في محاولة حرف النقاش الوطني باتجاهات لا تخدم مصلحة وبقاء شعبنا. فثمة هدف ربما قد تحقق بسحب النقاش الوطني باتجاه بعيد عما يجري وتعميق الخلاف وعودة النقاش إلى حيث الخلاف بدلاً من الحالة الوطنية العامة السلمية. أسوأ شيء ألا يكون التقدير والتقييم في محله، والأسوأ أن يتم خلق وابتداع مواضيع النقاش وتغذيتها حتى تأخذ اهتمام الناس نحو مناطق لا تساهم في تعزيز مناعتهم، بل في إضعافها وتقديم شعبنا أنه مختلف ومتصارع حتى في لحظات عصيبة كتلك التي نعيشها.
طبعاً لا يخفى أن قرابة 40% من سكان قطاع غزة باتوا في مدينة رفح ومخيم النزوح الكبير فيها في منطقة المواصي، وأظن بما أنني هناك الآن في مخيم النزوح لم يسألني أحد عن رأيي ولا سأل مئات الأصدقاء وآلاف الجيران الذين أقابلهم يومياً وأتحدث لهم. لم اسمع أن أحدًا قام بعمل استطلاع للرأي خاصة أننا في مخيم النزوح الذي يضم مئات الآلاف نتحرك في مساحة ضيقة. كذلك الأمر في مدينة رفح. والأكثر غرابة من ذلك أن بضع مئات من الآلاف فيما تبقى من جباليا ومدينة غزة ومنهم والدي وأخواي الأصغران والمئات من أبناء عمومتي يتعرضون للتنكيل اليومي على يد الجيش وينقلونهم من مدرسة لأخرى، وربما الصور الصادمة التي خرجت من شمال غزة لتعرية المواطنين والتنكيل بهم تعكس هذا الواقع، ليظل السؤال: هل حقاً هناك من سأل هؤلاء وقاموا بتعبئة استبانة استطلاع معهم آخذاً بعين الاعتبار أن الاتصال الهاتفي غير متوفر معظم الوقت، فأنا مثلاً لم أتمكن من التواصل مع والدي منذ أسبوع. طبعاً الأمر لا يختلف قليلاً في مدينة خان يونس التي تتعرض لعملية تدمير ممنهجة وأجزاء كبيرة منها تحت الاحتلال والقتل. أنا حقاً لا أعرف كيف يوجد بيننا من يمتلك مثل هذا الترف؟ هل يوجد حقاً من قام بسؤال هؤلاء عن رأيهم وعن مواقفهم السياسية. وهل حقاً لا يعرف من يصوغ هذه الأكاذيب أن الناس قد يطردونه إذا قام بسؤالهم عن رأيهم في بعض تفاصيل السياسة، وربما السؤال الوحيد الذي قد يتعاطون معه هل تريدون إنهاء الحرب؟ أسئلة تتعلق بحاجياتهم اليومية حول المساعدات. وأنا اقترح أن من لديه بعض التمويل ولا يعرف كيف يصرفه فلا بأس، بإمكانه شراء بطانيات وملابس شتوية للأطفال لأن الناس بأمس الحاجة لذلك، ولأنهم تركوا بيوتهم والشمس تعتلي صدر السماء والآن صار الغيم يهيمن عليها والمطر ينزل منها، إذا كان هناك «مشروع» ولا بد من صرف الأموال المخصصة له فيمكن شراء بطانيات وملابس ويمكن أيضاً للقائم على المشروع أن يأخذ راتبه ويستقطعه بوصفه من «العاملين عليها».
النقاش الآخر الذي استوقفني هو تقرير مؤسسة «مراسلون بلا حدود» الذي زعم أن الصحافيين الذين استشهدوا خلال الحرب لم يقتلوا لأنهم صحافيون وأن الأمر ربما تم بالخطأ دون قصد. النفي تم عن الاستهداف القصدي والمباشر. ربما لو أصدرت قيادة جيش الاحتلال مثل هذا التقرير لكان ثمة منطق أن هناك من يحاول أن يدرأ الجريمة عن نفسه ويبرئها من فعل هو يؤمن أنه موضع إدانة أما أن يصدر عن مؤسسة من المفترض أنها تدافع عن حقوق الصحافيين وحريتهم «بلا حدود» كما يزعم اسمها الذي لم تحترمه حين أصدرت مثل هذا التقرير فهو أمر يخالف المنطق. بداية، جميع الصحافيين في غزة كما في كل مكان في العالم وقت الحرب لا يتحركون بدون دروعهم وخوذهم، وهي دروع عادة ما تكون واضحة وضوح الشمس حتى للقاتل خلف شاشة العرض التي تبث عليها الطائرة الزنانة صور المراقبة، أما من يتحركون فبسيارات عليها شارة الصحافة وهي شارة كبيرة حمراء يتم لصقها على مقدمة السيارة وتكون واضحة للطائرة في الجو. وحيث إن كل سيارة يتم استهدافها تكون موضع مراقبة وتصوير مستمرين فإنه لا يمكن للطائرة الزنانة ومشغلها في القاعدة العسكرية داخل إسرائيل أن يخطئ شارة الصحافة على السيارة. وإذا كان الصحافي يحمل كاميرا ويصور أو يقوم بمراقبة ما يجري حتى يوثقه فكيف يكون قتله بالخطأ. مثلاً، الصحافيون الثلاثة الذين استشهدوا في ثالث أيام الحرب. أنا رأيتهم وهم يرتدون الدروع والخوذ التي أخذوها من بيت الصحافة وكنت هناك مع صديقي الراحل الصحافي بلال جاد الله، وكانوا يترقبون قصف أحد المباني التي طلب الجيش إخلاءها من أجل تدميرها ليفاجأ الجميع أن الجيش قصف المبنى المقابل حيث يقف الناس بمن في ذلك الصحافيون في انتظار تصوير الحدث. كيف يكون قتل هؤلاء بالخطأ. بلال جاد الله بعد ذلك سيقتل حين يتم استهداف سيارته التي تضع شارة الصحافة بشكل لافت.
صحيح أن الصحافي مواطن مدني وهذه حقيقة، فكل شخص مواطن ولكن حين يكون هذا المواطن في مكان عمله فإن كل ما يصيبه ويلحق به يكون نتيجة هذا العمل. هذا منطق الأشياء. من المحزن بل من المعيب أن تقوم منظمة دولية بإصدار تقرير مثل هذا لا يحقق أي هدف إلا تبييض صورة الاحتلال وتشجيعه على قتل المزيد من الصحافيين لأن هناك من سيقول، إنهم قتلوا كمدنيين ولم يتم استهدافهم لأنهم صحافيون. كذلك يمكن له أن يقتل الأطباء ويعتقلهم على الحواجز وسيصدر تقريرا يقول، إنهم مدنيون وإن اعتقالهم أو قتلهم لم يكن لأي شيء آخر.
هل يشبه هذا التقرير الصادر عن «مراسلون بلا حدود» استطلاع الرأي سابق الذكر في نصف المقال الأول في أنه حرف النقاش وجعل القضية الأساسية ثانوية، وأخذنا بعيداً عن الحقيقة؟ نعم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها