أذكر، وفي مثل هذه الأيام، أننا تحلقنا كمجموعة من الأدباء، والشعراء، والفنانين، حول الشاعر علي فودة كي نواقفه في ساعة تأبين واستذكار وبكاء مر صامت، وذلك بعد أن رحل مرتين، وجاء نعيه مرتين، في شهر آب عام 1982.

كنا قد عرفناه مرتين أيضا حين استضفناه في المخيم، مرة برغبة منه كي يتعرف إلى من يكتبون في المخيم، ومرة برغبة منا كي نودعه. في المرة الأولى كان قادما من بغداد ويريد الذهاب إلى بيروت، وفي المرة الثانية كان قادما من بيروت ويريد الذهاب إلى عمان. ورأينا فيه، خلال المرتين، كائنا بريا يحتاج إلى وقت كي نألفه، ولم نغادر، في المرتين، النقاش الذي دار حول الأدب الفلسطيني، والوطن بوصفه مكانا أصيلا، والمخيم بوصفه مكانا طارئا. أي لم نتعرف إلى علي فودة، ولم ندخل إلى عوالمه الشخصية، ولم نتعرف إلى تأثيرات المخيم، بوصفه منفى، في شعره، وسرده. لقد اكتفينا بقولته العجلى، أنا من ريف حيفا، أحب حيفا والكرمل، وأحب أحاديث أهلي عنهما، لتكون تعريفا تاما شاملا له.

بعضنا، قرأ له قصائد متفرقة، وبعضنا قرأ له روايته (الفلسطيني الطيب)، ولذلك كان الحديث عنه، وأمامه، قليلا، وهذا ما جعل بعضنا يعتذر منه لأننا لا نعرفه بسبب عدم وصول كتبه إلينا فقال: لا عتب أيها الأصدقاء، لأن المنفى منفى، وعلينا أن نُهرب كتبنا من مكان إلى آخر، ومن مخيم إلى آخر كما لو أنها (ممنوعات)، وأنا أعتذر منكم أيضا لأنني لم أقرأ لكم، لقد سمعت ببعض أسمائكم، لكنني لا أعرفكم أيضا، وقلنا له: عليك أنت ألا تعتذر أيضا.

لقد أمضينا ساعات اللقاء الأول معه، والثاني، ونحن نقرأ نصوصنا، كي تتقابل المرايا، والصور، والآراء، والأفكار، والأحلام، من أجل أن نضيق المسافة بيننا، ولم يتميز اللقاء الثاني من اللقاء الأول إلا بالجرأة والجسارة لأننا أحسسنا بأن علي فودة بات واحدا منا، فهو يعرفنا، ونحن نعرفه، في اللقاء الثاني خصنا بصندوق كرتوني من كتبه، وكتب عز الدين المناصرة الذي أحبه، وخصصناه نحن ببعض ما توافر لنا من الكتب التي ذكر عناوينها وأسماء أصحابها في لقائنا الأول معه، ولكنه لم يأخذ منها كتابا واحدا، لقد تركها لحين عودته من عمان، وحين عاد لم نعرف موعد عودته، لذلك بقيت تنتظره، لكن علي فودة الذي مر بنا مرتين مرور البرق، صار أكثر من رعود في صدورنا حين وصل إلينا خبر استشهاده على الرصيف، في عين المريسة في بيروت، وهو يوزع جريدة (الرصيف) التي راح يحررها مع الأديب رسمي أبو علي، وبعض الأصدقاء العراقيين، ولم يصلنا منها عدد واحد لأنها كانت توزع في بيروت، وهي خاصة بالفدائيين الذين يواجهون العدو الإسرائيلي، لكننا عرفنا أن محتواها كان كلمة واحدة هي (صامدون)، هذه الكلمة التي استدارت على شكل قصيدة مرة، وبيان مرة أخرى، وأخبار من مناطق الخالدية، والمتحف، والطيونة، ومار مخايل، والجامعة العربية، والفاكهاني.. إلخ.

عندما وصل الينا خبر استشهاده الأول بكيناه وتسابقنا للكتابة عنه، لكن بعد ساعات كذب الخبر، فهو حي، ولم يكن معه، حيث كان يقف، رسمي أبو علي أو أحد من الأصدقاء العراقيين، لقد كان ثاني اثنين: هو وصحيفة (الرصيف)، وفرحنا لأن الصاروخ الإسرائيلي تخطاه، لكن خبر نعيه الثاني أعادنا إلى البكاء مرة ثانية، فقد رحل علي فودة حقا، ولم يُكَذب الخبر، وقيل لنا إنه، وهو مصبوغ بالدم، قرأ نعيه مرات وهو يبتسم! لعله استعاد وعيه للحظات ليرى ما كتب عنه خلال ساعات، من رثاء له.

علي فودة، صاحب دواوين الشعر التي تركض سطورها الذهبية إلى المعاني دون ريث أو تلفت، وصاحب رواية (الفلسطيني الطيب) التي امتازت بتقنية تعدد الأصوات (البولفينية) التي جعلت المخيم مسرحا للآراء والرؤى، حتى لو لفها الخصام والعراك، وعلي فودة صاحب قولة: اكتبوا أدبا رفيعا يليق ببلادنا الجميلة، ففلسطين جميلة تحب الجمال؛.. رحل واقفا كالأشجار، وبيده الجريدة التي نشر فيها قصيده، رحل.. وصوته يتعالى مناديا الناس الجسورين الذين مروا به كي يأخذوا نسخة من جريدته (الرصيف)، ليعرفوا أخبار رفاقه الفدائيين، وما كان أحد من هؤلاء الناس يظنه سوى كائن يبيع الصحف.

لقد رحل علي فودة، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، رحل طي حلمه بالعودة، مثل غسان كنفاني، وماجد أبو شرار، وراشد حسين، وعز الدين القلق، وحسين البرغوثي، لقد رحل طائر الكركي الجميل مثلما رحل هؤلاء، طيور الكراكي الجميلة، وهم يغنون بجذل: موطني، موطني!