لا أدعي أنني مطل على الأدوار السياسية التي قام بها محمود درويش بما يكفي، فكثير من الأسرار تموت مع صاحبها. وقد يكون أشخاص قليلون جدا مطلين اكثر من غيرهم على هذه الأدوار، وبالطبع ياسر عرفات في طليعتهم، فهو من كان يمسك بمعظم الملفات والمهمات وخاصة الأكثر سرية منها وهو ايضا رحل ورحلت معه كثير من الأسرار. درويش كان يدرك انه ابن مرحلته وما فيها من تعقيدات سياسية، وما تحتاجه من دهاء سياسي، كان يدرك اهمية وجوده الى جانب عرفات، ويدرك ان ذلك من شأنه ان يعزز شرعية قيادته، وهو أراد تعزيز هذه الشرعية، ليس من قبيل تعزيز سلطة الشخص ولكن لأن عينه  كانت باستمرار تتوجه نحو اهمية وحدة الشعب الفلسطيني، والمحافظة عليها في أعقد الظروف.


محمود درويش كان من أكثر العارفين بحاجات السياسة الفلسطينية ولم يبخل في تلبية هذه الحاجات.
قبل أن أكتب المقال قلبت بعض الأوراق، واستمعت لبعض المقابلات مع درويش، لما يخص علاقته بالسياسة، لفت نظري بشكل خاص إجابته عن سؤال يتعلق باستقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في نهاية شهر آب/ أغسطس عام 1993، اي بعد ان تم التوصل الى مسودة اتفاقيات اوسلو، واراد ألا يسجل عليه انه وافق على نص هذه الاتفاقيات، ما لفت نظري موقفه الوطني المسؤول والدقيق، الذي يبرز مدى وعي هذا الانسان الاستثنائي. بشأن المبدأ، قال درويش انه لم يكن يوما يريد ان يتبوأ منصبًا سياسيًا، لأن المهمة السياسية ستكون على حساب الابداع، وان دوره كشاعر هو الأهم، وركز في حديثه على اهمية التخصص.


أما عن استقالته فقال: لم أود أن أكون من الموافقين فاستقلت، ولم أريد أن أكون من بين الرافضين لأنني أردت أن يعطى أوسلو فرصة قد يستفيد منها الشعب الفلسطيني، ولم ارد ان اكون من بين من يسعون لتخريب اوسلو لان خرابه لن يكون وبالا على القيادة فحسب وإنما على كل الشعب الفلسطيني. واضاف درويش: "لقد كنت من بين الحائرين، والحيرة بحد ذاتها موقف مسؤول".


إذا اعتبرنا محمود درويش بانه سياسي فهو من مارسها عن وعي ومعرفة عميقة، لكنه لم يقترب من وهجها المباشر، كان يتفهم براغماتية القيادة، وعرفات تحديدا، لكنه ترك مسافة بينه وبينها، ولم ينخرط بما هو يومي وركز على الوعي وتعزيز الادراك بأهمية الهوية الوطنية. وفي هذا المعنى كان درويش استرتيجيا. اثره كأثر الفراشة قد لا نلمس مباشرة احيانا لكنه اثر باق في وعي الأجيال.


وإذا كان ياسر عرفات من أبرز صناع الهوية الوطنية الفلسطينية بالسياسة، فإن محمود درويش صانعها بالثقافة والشعر، وكان نتاجهما متكاملا، لذلك كان أبو عمار يعتبر درويش والمثقفين الفلسطينيين والعرب الآخرين بمثابة روح الثورة التي لا يمكن ان تصمد بالسلاح وحده انما بابداعه وابداعهم الفكري.
البعض صور درويش بأنه شاعر البلاط، وهذا تقدير خاطئ تمامًا، فدرويش مع الفكرة، فكرة الثورة، ودافع عنها بطريقته الابداعية، وربما هنا نلخص ما أطلق عليها متلازمة محمود الدويش عندما قال مقولته الشهيرة: "ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة، ما أوسع الفكرة، ما أصغر الدولة"،  الملفت بدرويش أنه لمس الدور المتميز لياسر عرفات وساند  قيادته للثورة لكنه كما ذكرت لم يكن على وفاق معه في كل مناوراته السياسية، بل ترك بينهما مسافة تجعله حرًا في خياراته الابداعية.


انطلاقًا من كل ما ذكر فإن درويش قد كان سياسًا حتى النخاع، وطنيًا فلسطينيًا حتى النخاع، كرس ابداعه وقلمه وعقله وحسه لفلسطين، لذلك فإن دور درويش السياسي هو أكبر بكثير من أن يختزل بعلاقته بأبي عمار، فهو من كيّف الثقافة لخدمة القضية، وطوّع الاسطورة والتاريخ  والدين، وطوّع الحاضر من اجل ان يعيد فلسطين الى خريطة الشرق الاوسط، وهنا يلتقي مجددا مع عرفات ومع هدف الثورة، ويدعم هذا الوجود بجذوره التاريخية العميقة، بمعنى ان فلسطين هي حقيقة تاريخية لا يمكن الغاؤها او طمسها، "كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين"، لقد ادرك ان الصهيونية سرقت تاريخ فلسطين قبل أن تسرق أرضها، لذلك كرس شعره وفكره وثقافته لانقاذ فلسطين وتاريخها من السطو الصهيوني.


لم يكن درويش سياسيًا وحسب بل كان اكثر السياسيين عمقًا وفاعلية وتأثيرًا، والأهم انه وثق هذا التأثير العميق حين قال: "اثر الفراشة لا يروى أثر الفراشة لا يزول".