أجل، ثمة أيام في حياة شعبنا أوفى من زمن، وأكثر غنى من مواسم الدنيا كلها، وأبعد، في القيمة والمعنى، من تاريخ مكتوب بالدقة الكاملة، ذلك لأن هذه الأيام هي عوذيسا الفلسطينيين الذين يكتبون بوقوفهم ونديتهم، وقناعاتهم، وصبرهم، وجسارتهم الأبدية، ودمهم الطهور، واشتقاقاتهم المذهلة سيرورة حياتهم الطوافة بصيرورة فلسطين/ البلاد حضارة وتاريخًا، ونسبًا للقيم السامية الصاعدات أدراجًا من النبل العميم، وبتحولات من العتمة الغامقة إلى بهرة الضوء، ومن الانحناء أمام القوس الرامية، إلى المواجهة المناددة في كل شيء، وفي كل الأمكنة العزيزة من أريحا إلى النقب، ومن الجليل إلى الخليل، ومن غزة إلى القدس ثباتا تتعلم منه الجبال معنى الوقوف البهيج.


أجل، أود الحديث عن يوم الأرض، وقد صار حياتنا كلها، وأحلامنا كلها، وسعادة أرواحنا كلها، لأن الغاصب القاتل ما استطاع أن يفتك منا التاريخ، ولا العشق، ولا الذاكرة، ولا الحنين، ولا الرؤيا، ولا يا ظريف الطول، ولا صابون الغار، ولا أربعاء أيوب، ولا عناة، ولا إيل، ولا [مسبل عيونو ويحنونو]، ولا المسخن، ولا الطابون! ما استطاعه الغاصب، وبالقوة الغاشمة، هو حيازة الأرض، التي تقول له، وفي كل لحظة: إنها عصية وصعبة المنال، وطاردة لغزاتها، وتقول له أيضًا: إنها لأهلها، ولأهلها فقط.


يوم الأرض 1976، وشهداؤه البررة: خديجة قاسم شواهنة، خير أحمد ياسين، ريما حسن أبو زياد، وعيد محمود خلايلة، ومحسن حسن سيد، ورأفت علي زهيري، وجرحاه الكرام أهل الوشوم الوطنية، الذين خرجوا ليقولوا: لا كبيرة لغاصب الأرض الفلسطينية، وليواجهوه بالصدور العارية في الجليل كله، وفي النقب كلها؛ ليقولوا له: لا كبيرة أيضًا لمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية ذات الملكية الخاصة، وقد اشتبكت الأيدي الوطنية مع  البارود الإسرائيلي في تظاهرات وإضراب عام ومسيرات عمت الجليل والنقب، رغم التهديدات الشرسة لأوامر المحتل الإسرائيلي، بعدم الخروج، وعدم التظاهر، وعدم رفع الأعلام الفلسطينية.


ذلك اليوم، يوم الأرض الفلسطينية 30/آذار/ 1976 كان نشورًا ربيعيًا للفعل الفلسطيني الذي ولد من أجل أن يكون المنارة، والدرب اليقين، والرؤيا التي لا بديل لها مع محتل غاصب دموي باطش، ليقول الفلسطينيون بعلو الصوت: الأرض لنا، وأي حيازة لها بفعل القوة هو سرقة، وجريمة، وجنون، وهيستيريا وحشية، فالأرض ليست زراعة، ولا مروج عشب، الأرض هي الوطن، وارتجافتها هي ارتجافة الوطن والمعنى والحياة.


يوم الأرض الفلسطيني 1976، كان إرادة للعمل الوطني المنظم، وخروج جلي على إرادة السجان الذي منع أهالي القرى الفلسطينية من زراعة أرضهم، ثم استصدر قراراته الجائرة، بأنها أرض غير مستثمرة أو أنها أراضي غائبين، كي يضع يده عليها، كي يجعلها ميادين قاحلة يتدرب فيها جنده على الرماية القاتلة. لقد خرج أهالي الجليل من دير حنا، وسخنين، وعرابة، وطرعان، وطمرة، وكابول، وعرب السواعد لمواجهة قوات الجيش الإسرائيلي التي جاءت لتنجز مصادرة الأراضي في منطقة المل، والمل شجرة من فصيلة السنديان، لقد دافع الأهالي الفلسطينيون، الذين هم أيضا من فصيلة السنديان أيضًا، عن أراضيهم في 30 آذار 1976، لقد خرجوا من البيوت والمدارس، وغادروا حقولهم وأسواقهم، وأغلقوا محلاتهم، ليسمعوا العالم الأصم أنهم يدافعون عن أرضهم بأرواحهم، وقد عاضدهم أهلنا في قطاع غزة والضفة الغربية والمخيمات الفلسطينية في الشتات.


لقد شارك الجميع في مواجهة العدو الإسرائيلي، بعد مرور قرابة ثلاثة عقود على النكبة الفلسطينية ليؤكدوا أن الأرض هي كتاب فلسطين ولا بديل له من كتاب، وأن الأرض الفلسطينية هي العشق الأبدي، ولا بديل له من عشق، وأن الأرض الفلسطينية هي الحياة الكريمة، ولا بديل لها من حياة.


يوم الأرض 30 آذار 1976، هو صرخة أهل الأرض الفلسطينية الجهيرة بأن الأرض، ومنذ قدم القدم، هي لهم، وستبقى لهم مهما طمع بها الطامعون. لقد جاء الغزاة إليها من كل جهات الأرض غاصبين، لكنهم ولوا منهزمين، وها هو ناسخ أحداث التاريخ قد هيأ ورقه، وأحباره، وأقلامه ليكتب القصة كاملة تحت عنوانها العريض:
.. وهؤلاء مهزومون أيضًا!

المصدر: الحياة الجديدة