لن يفلح المستغلون من فئة التجار في جعل رمضان شهرًا للتكسب اللامعقول واللامقبول، اذا اتخذه المواطن المستهلك على حقيقته شهر صيام وتدبر وتوفير، لا شهرًا للإسراف والتبذير، ولن ينال المتحكم بحركة المواد الغذائية والبضائع في الأسواق، إذا أحكم الصائم المؤمن إرادته على رغبته، أو يحل عينيه محل معدته، فمعظمنا وللأسف يلبون جوع عيونهم، فيتلقفون ما تبصره حتى لو فاق حاجتهم. 


قد يقول قائل إن الميسورين والأغنياء ينظرون بعين الرحمة للفقراء، لكن من قال إن كل المساكين والفقراء يرضون الصدقات، أو يقبلون عطاءً من أحد، فمنهم من يسعى في الأسواق باحثًا عن أرخص المعروض الصالح للأكل، وكم مشهد لمسنة أو لشخص يبدو رب عائلة يلويه الأسى عندما يسأل عن سعر مادة غذائية ولا يستطيع دفع مقابلها، فيلوذ مضطرًا الى صندوق تحت بسطة بائع استحى من عرضها نظرا لضعف جودتها، فينال منها الصالح بأقل ثمن، لعله يسكن جوع عائلته بعد صيام بإخلاص، وللإنصاف فإنى لا أنسى ذلك الحاج في حسبة رام الله الذي اعتدت شراء الخضار من عنده، لا أنسى أبدًا مشهد سيدة تأخذ حظها مما ترغب من وجه البسطة في كل أيام السنة ومنها أيام شهر الخير والبركة رمضان. 


ليس رمضان وحسب فرصة للتاجر الغني الميسور ليعيد حساباته، بل كل يوم من أيام السنة فرصة ليفكر بأنسب السبل للبرهان على إنسانيته وقناعته وإيمانه بمبدأ المسؤولية الإنسانية والأخلاقية عن أطفال الفقراء والمساكين، والمحتاجين فيسلكها، فإن كان الكسب المشروع والربح الحلال حقّا.. فإن النظر لهذه الشريحة من المجتمع بما تيسر يقوي نسيج المجتمع، ويحصنه من فايروس الكراهية والبغضاء، ويفوت الفرص على اللاعبين على وتر الصراعات بين الأغنياء والفقراء... وبالمقابل فإن أيام الصيام للمواطن المستهلك فرصة ثمينة لتأديب نفسه الجامحة، وترويض غريزته، وتحريرها من ميول غير سليمة، وعادات تستعبده وتذله، وينتصر لروحه وجسده ونفسه، ويعيش أجواء رمضان الروحانية والاجتماعية، وليس الاستسلام لعادات لو دققنا البحث فيها، ولمسنا نتائجها سنكتشف شراستها، وقدرتها على سلخنا من قيم الصيام وأخلاقياته وسلوكياته. 


فرمضان شهر سلام، حيث يجاهد المرء نفسه فيمضي بها على الصراط المستقيم، محبًا، مبتسمًا، هادئًا، عاقلاً، ودودًا للناس، لطيفا بسلوكه وكلامه، وشهر السلام والرحمة والتراحم، والمغفرة والغفران، هو شهر ليلة القدر التي هي سلام على الدنيا والناس أجمعين. هو شهر الدول والمجتمعات المصنفة عالم ثالث أو فقيرة، ففي رمضان يساعد المواطن إدارة الدولة العادلة، وتساعد الدولة المواطن بإيجاد فرص عمل، وتنفيذ مشاريع صحية وتعليمية مثلاً مما يتم توفيره، تعود فائدتها على أفقر المواطنين، لكن هذا لن يحدث لأن مؤشر الاستهلاك والاستيراد يتصاعد، ويسجل أرقامًا قياسية، فنفتح بأيدينا جروحًا تبقى نازفة بسكين شهوتنا القياسية للطعام، ونصب جام غضبنا على مؤسسات دولتنا إذا لم تغرق أسواقنا بالمستورد من الشرق والغرب والشمال والجنوب.


تهاجمنا الفضائيات بجحافل مسلسلات محمولة، وجيوش جنودها ممثلون وممثلات، فيحتلون زماننا الذي تحتاجه نفوسنا للشعور بالطمأنينة والسلام، ويستوطنونها بالرعب السمج، والصراخ والعويل، وتفيض الشاشات بدموع النساء وأنينهن وجراحهن، وتستحضر مشاهد سفك الدماء بسيوف ورماح المتحاربين من عهد الجاهلية حتى حريم السلطان ليس من أيام العثمانيين وحسب بل في أيام سلاطين القرن الواحد والعشرين، فتصيب مجالس العائلة بضربة قاضية، التي بات معظمها لا يلتئم إلا حول لحوم الضأن، والطيور المحمرة، حتى الحلويات العربية الأصيلة تعرضت لغزو الإفرنجية، ويا لمرارة موظف دخله محدود أضطر لمجاملة العائلة أو الأصدقاء- حسب التقاليد والعادات- بإفطار كلفه ثلث راتبه على الأقل، لأنه لا بد أن ينصبها مائدة عرمرمية.. وإلا؟!!

المصدر: الحياة الجديدة