تقرير: رشا حرز الله

 بعيدًا عن أعين السجان، تمكن معتصم داوود ورفاقه الأسرى من تهريب فيلم التحميض "النيجاتف" لعائلاتهم خلال الزيارة، بعد إزالته من داخل كاميرا تصوير قديمة كانت بحوزتهم في سجن "مجدو".  

 

يوثق الفيلم الذي صوره الأسرى عملية اقتحام قوات القمع التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي خيمهم، والاعتداء عليهم بالضرب الوحشي، والتنكيل بهم، وإتلاف مقتنياتهم قبل 20 عاما تقريبا.

 

قبل عام 2006، كانت بعض السجون مثل "مجدو" و"النقب" و"عوفر"، عبارة عن خيم، تتبع إدارتها لجيش الاحتلال، قبل أن تتحول جميعها إلى سجون مركزية، تحكمها إدارة واجراءات واحدة، كون الخيم لم تعد تتسع للأعداد الكبيرة من الأسرى.

 

كان بمقدور الأسرى في ذلك الوقت اقتناء كاميرا، توثق تفاصيل حياتهم اليومية في المعتقل، والكاميرا واحدة من الإنجازات التي استطاع الأسرى تحقيقها بعد نضال طويل، وهو ما تغير اليوم نتيجة التشديدات التي تفرضها إدارة المعتقلات.

 

الكاميرات كانت تبقى بحوزة مسؤولي الأقسام من الاسرى، ويرسلون فيلم "النيجاتف" المصور إلى إدارة المعتقل لتحميضه، وجلب الصور بعد التدقيق في محتواها خشية التقاط الأسرى صور عمليات القمع.

 

 لكن ذلك لم يمنع الأسرى من تهريب فيلم "النيجاتف" عبر الشبك "السياج" أثناء الزيارة، لفضح جرائم السجانين بحق الاسرى العزل

 

معتصم داوود (45 عاما) من مدينة قلقيلية، جمع خلال فترات اعتقاله، على امتداد 14 عاما، في سجن "مجدو"، 700 صورة توثق الاقتحامات والتنكيل بالأسرى، إضافة لصور رفاقه الاسرى، ومنهم من يقضي حكما بالسجن المؤبد، وبعضهم استشهد.

 

بعد تحول الخيام إلى سجون مركزية، شددت إدارة السجون على الأسرى، وسحبت إنجازات عدة منهم من بينها الكاميرات، واستبدلتها بطلب التقاط صورة قد يستغرق تحديد موعده من شهر إلى عام، وقد يرفض، أو يؤجل إلى وقت المناسبات والاعياد.

 

يُشبّه معتصم حال الأسرى في الليلة التي تسبق يوم التصوير وكأنهم ذاهبون لـ"زفة عريس"، يستيقظون باكرا، يستحمون، ويحلقون رؤوسهم ويهذبون لحاهم، ويضعون ملابسهم تحت الفراش وينامون فوقها، لعدم توفر "مكوى".

 

لكن لا شيء يسير في سجون الاحتلال بشكل طبيعي، فكل تفصيلة يعيشها الأسرى، ترافقها منغصات جمة، فعلى مستوى التقاط صورة لا يتعدى زمنها ثوان معدودة، تفرض الإدارة اشتراطات تصل لحد التدخل فيما يرتدونه خلال التصوير.

 

ففي يوم التصوير تجبر إدارة سجون الاحتلال الأسرى على الالتزام بزي السجن "الشاباص" البني، ولا تعطيهم حرية اختيار ملابسهم التي يريدون التقاط الصورة فيها، لتبقى تفاصيل السجن ترافقهم حتى في هذه المساحة الصغيرة.

 

يقول معتصم إن إدارة السجون تشترط أيضا أن تكون خلفية الصورة بيضاء فقط، كما تحدد زاوية معينة من السجن لالتقاط الصور فيها، كما تحظر صور الأسرى مع بعضهم البعض، وإذا أراد أسير أن يتصور مع صديقه، فإنه يتوجب عليه تقديم طلب مسبق للإدارة، وإما أن تسمح له أو ترفض، لكن بعد ضغوطات من الأسرى أصبح الأمر مسموحا.

 

في يوم التصوير تنادي الإدارة على الأسرى واحدا تلو الآخر لتصويره بحيث يسمح له بصورتين فقط، يصل ثمن الواحدة منها 20 شيقلا أي ما يعادل "5 دولارات"، يدفعها من مخصصات "الكانتينا"، ويحرص الأسير خلالها على الظهور مبتسما، ليوحي لعائلته أنه بخير. تنتهي اللقطة ويعود لسجنه وجدرانه.

 

تجلب إدارة السجن الصور، وتوزعها على الأسرى، الذين يقومون بدورهم بتذكر الأحداث والمواقف التي رافقت التقاطها، خاصة المضحكة، ثم يختارون الصور التي سيرسلونها لعائلاتهم.

 

تمثل الصور شيئا كبيرا للأسرى خاصة المحرومين من زيارة عائلاتهم لسنوات طويلة، والتي تترك أثرها على شكل الأسير أو شكل أفراد عائلته، وتصبح الشيء الوحيد الذي يبقيه على تواصل معهم، وترفع معنوياته ومعنوياتهم، وتطمئنهم عليه وعلى صحته، لعل قلب العائلة يهدأ على ابنها.

 

أحد المواقف الصعبة التي عاشها معتصم أثناء اعتقاله عندما أرسلت عائلة أسير من جنين، كان ممنوعا من الزيارة لمدة طويلة، مجموعة من الصور لابنها من بينها واحدة لشقيقه الأصغر الذي لم يزره ولم يره أبدا، حيث لم يعرفه ذلك الأسير، وظن أن الصورة وصلت له بالخطأ، ثم سأل أحد الأسرى من بلدته ممن كانوا معه في القسم "من هذا؟"، رد هذا شقيقك، صدم الأسير وتأثر كثيرا، رغم أننا كنا نظن في البداية أنه يمازحنا، ثم فوجئنا أنه فعلا لا يعرف شقيقه، وصار الموقف حكاية السجن.

 

لا يقف تداول الصور على مستوى العائلة الصغيرة فقط، بل يمتد ليشمل الأعمام والأخوال والخالات والأصدقاء الذين لا يستطيعون زيارته، كما أن الكثير منها ترفع خلال الاعتصامات والمسيرات، وهذا ما يدفع الأسرى بحسب معتصم لأن يكونوا بأبهى حلة.

 

في السجن، يحول الأسرى "أبراشهم" لمعرض صور مصغر، لكل منهم زاويته، يصفه معتصم بأنه بيت الأسير الخاص، بيت للأحلام والذكريات، والهروب من الواقع وحالة الاعتقال، ويعلق كل واحد منهم صور عائلته وأطفاله وأناس يحبهم، لتمده بالمعنويات وتكون له ونيسا في ليالي السجن الموحشة.

 

تستخدم إدارة سجون الاحتلال الصور وسيلة لمعاقبة الأسرى، فكانت، ولا زالت، تحرم العديد منهم من التصوير كإجراء عقابي.

 

ويسرد معتصم في إحدى القصص ما جرى مع أسير علق صورة والديه على شباك الغرفة الصغير، لكنه نسي أن يزيلها كون "الإدارة" تمنع وضع شيء عليه، وفي اليوم التالي حضروا للعد الصباحي، ووجدوا الصورة معلقة، فقاموا بسحب جميع الصور من الغرفة، ومعاقبة الأسير وحرمانه من التصوير.

 

في الاقتحامات تتعمد قوات القمع تدمير وتخريب كل مقتنيات الأسرى، وتتعامل بهمجية مع صور عائلاتهم وأحبائهم، وتقوم بتمزيقها والدوس عليها، كونها تعلم ما يتركه ذلك من أثر نفسي عليهم، إلى أن الأسرى كانوا يقومون عقب الاقتحام بلملمة قصاصات الصور الممزقة، ومحاولة إلصاقها مع بعضها البعض، يقول معتصم: "كنا نفلح أحيانا في جمعها، وأحيانا أخرى نخفق".

 

مواقف صعبة أخرى يرويها عندما يتم إدخال صورة لوالد أو والدة أسير أو شخص عزيز عليه توفي أثناء وجوده في السجن، "هناك أسرى كانوا يقضون أياما في البكاء، واحتضان الصور".

 

يسمح لكل أسير بإدخال خمس صور شهريا لعائلته أو أصدقائه، لكن يحظر عليه إدخال صور الشهداء أو تلك التي تحوي كتابة مهما كان نوعها، أو التي تظهر علم فلسطين أو لفظ فلسطين. أما التقاط صورة مع العائلة، فإنه يتطلب تقديم طلب مسبق من قبل الأسير لإدارة سجون الاحتلال، خاصة من كان أحد والديه مريضا، وحالته الصحية متردية ومن الممكن ألا يراه مرة أخرى، أحيانا كانوا يسمحون بذلك، وفي كثير من الأحيان يرفضون، ويحرمون الأسير من فرصة احتضان والده أو والدته.

 

يتبادل الأسرى ما يجمعونه من صور خلال فترة الاعتقال مع بعضهم، خاصة مع من يتحررون، أو الذين ينقلون إلى سجون أخرى، يقول معتصم: "نتبادل الصور خاصة مع المحكومين بالسجن المؤبد، الذين لا نعرف إن كنا سنراهم مرة أخرى أم لا، وممن جمعتنا معهم ذكريات، ليبقوا يتذكروننا، ونأخذ صورهم معنا لنتذكرهم".