إيهاب الريماوي

صيف عام 2006 وفي ساعة "فورة" الأسرى صرخ شاب حكم للتو بالسجن 6 مؤبدات و50 عاما، أمام رفاقه الأسرى قائلا: "سأخرج قبلكم جميعا، أنا المحكوم بالسجن المؤبد، سأنال حريتي قبلكم، وسترون صدق كلامي قريبا".

يتذكر الأسير المحرر اسماعيل البرغوثي الذي أمضى 16 عاما في سجون الاحتلال، من بلدة بيت ريما شمال غرب رام الله، وأفرج عنه العام الماضي، هذه الكلمات التي نطق بها الأسير الشهيد كمال أبو وعر، الذي اجتمع معه في القسم (4) بغرفة (21)، بسجن عسقلان، وامتدت منذ عام 2004 ولغاية 2007.

للشهيد أبو وعر قلب طفل، يبكيه أي موقف إنساني مؤثر، لكنه قويا عنيدا صلبا مؤمنا بعدالة قضيته، حيث اقتحم بمفرده معسكرا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، قرب بلدة قباطية جنوب جنين عام 2002، وقتل عددا من الجنود، وأصاب آخرين، وفي الأسر كان ندا أمام جبروت وقمع إدارة سجون الاحتلال.

في السجن أجمع الأسرى على حبهم وقربهم من أبو وعر، الذي كان يختلق الحجج للتقرب من المعتقلين الجدد، ويرفض أن يبقى الأسير جاهلا بتاريخ الحركات الوطنية والثورة الفلسطينية، ويبادر لإعطائهم دورات عن التنشئة الوطنية واللغة الإنجليزية، حيث تتلمذ على يده مئات الأسرى.

يخصص الأسرى في سجون الاحتلال يوما في الأسبوع لتنظيف غرفهم وأقسام السجن، وكما يروي الأسير البرغوثي، أن أبو وعر كان يصحو في ساعات الفجر الأولى كل يوم سبت في سجن عسقلان، ويقوم بكل أعمال التنظيف للقسم، وعندما يستيقظ الأسرى من نومهم صباحا، يجدوا القسم نظيفا، والإفطار جاهزا.

حرص أبو وعر على ممارسة الرياضة يوميا، يبدأ يومه بقراءة القرآن الكريم، عند ساعات الفجر الأولى، قبل أن يقرأ الكتب والمؤلفات المختلفة، وكما يصفه صديقه اسماعيل البرغوثي بأنه "يملك ثقافة وأدبا على مستوى عالٍ".

إلى جانب ثقافته العالية، لدى أبو وعر حس الفكاهة والنكتة، وكان دائم الابتسام ويكره رؤية أسير متشائم، ويزرع الأمل والتفاؤل في نفوس الأسرى، ويشير البرغوثي إلى أنه إلى جانب ذلك كان الأسرى يتشوقون لليوم الذي يعد فيه كمال طعام الغذاء، خاصة المقلوبة التي كان يتقنها ولها نكهة خاصة منه.

يحب كمال أبو وعر الألوان الزاهية، ويكره القاتمة، فذهب إلى الاستفادة من قطع الثياب بالية، لحياكة أقمشة للفرشات والوسائد و"الأبراش"، كما كان يعد البراويز للأسرى ليضعوا فيها صور أحبتهم.

عام 2007 تفرق الصديقان، بعد أن عزلت إدارة سجون الاحتلال أبو وعر في عزل سجن "أيلون" ونقلت الأسير اسماعيل البرغوثي إلى سجن آخر، لكنهما بقيا على تواصل من خلال الرسائل الورقية، وأحيانا تجمعهما الصدفة في لقاء بـ "البوسطة" التي تعد إجراء عقابي بحق الأسرى.

لم يمنع المرض الذي بدأ بالظهور على كمال أبو وعر منذ عام 2017 من الدخول في إضراب الحرية والكرامة، الذي اعتبر الأطول في تاريخ الحركة الأسيرة، إلا أن ذلك لم يشفع له عنده الاحتلال، الذي قمع الأسرى وأطلق الغاز المسيل للدموع تجاههم وبينهم أبو وعر في سجن نفحة، حيث اصيب بالاختناق الشديد.

وبحسب البرغوثي فإن الأمل الكبير المزروع في قلب أبو وعر بالحرية القريبة، جعلته يختار أسماء أبنائه الذين يحلم بإنجابهم عندما ينال حريته، فأسمى ابنه الأكبر "مجد"، وابنته "ثورة"، والأخرى "يافا"، لكن سرعان ما انتهى الحلم.

ارتقى أبو وعر في العاشر من الشهر الجاري في مستشفى "اساف هروفيه" الإسرائيلي بعد معاناة استمرت عاما مع سرطان الحنجرة.

واكتشفت إصابة أبو وعر بسرطان الحنجرة في تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، وخضع لأكثر من 50 جلسة علاج كيميائي، وعملية جراحية لزراعة أنبوب في الحلق للتنفس والطعام.

ومنذ آب/ أغسطس الماضي تدهورت حالته الصحية، ونقل إلى سجن "عيادة الرملة"، ومن ثم إلى مستشفى العفولة، وهناك أصيب بفيروس "كورونا".

وقبل استشهاده بـ 10 أيام خضع لجلسة علاج كيميائي، استمرت أكثر من 12 ساعة، ما تسبب له بإعياء شديد فاقم من وضعه الصحي، يرتقي بعدها شهيداً.

ورفض الاحتلال تسليم جثمانه، وأبقاه إلى جانب 7 أسرى أخرين يرفض تسليمهم جثامينهم، أقدمهم الأسير الشهيد أنيس دولة الذي ارتقى في سجن نفحة عام 1980، على إثر إضراب الأسرى عن الطعام في ذلك العام، وحتى الآن يرفض الإفصاح عن أي معلومات لعائلته.

وبحسب الناطق باسم هيئة شؤون الأسرى حسن عبد ربه، فإن هناك العديد من الأسرى مصابون بالسرطان، يخضع بعضهم للعلاج الكيميائي، بينما يكتفي الاحتلال بإعطاء آخرين المسكنات.

ينقل الأسير المريض بالسرطان إلى جلسات العلاج الكيميائي بواسطة "البوسطة" مقيدا، شأنه شأن باقي الأسرى، ولا يعطى رعاية خاصة، الأمر الذي يسبب في تفاقم معاناته النفسية والصحية.

ويقبع في سجون الاحتلال نحو 700 أسير مريض منهم 300 بحاجة لرعاية ومتابعة طبية، فيما أن الأسرى المصابون بأمراض مزمنة وخطيرة هم الفئة الأكثر حاجة للإفراج عنهم ومساندتهن.