لا شيء يساوي الحرية، حتى لو كانت في تقييدها الحياة. أيام معدودات في الحجر المنزلي لم يحتملها معظمنا، ومَن التزم بها فاض به رغم كل ما توفر له من وسائل الرفاهية والتواصل مع العالم.

 

خمسة عشر يومًا، عشرون، أو حتى ثلاثون، ماذا تساوي أمام حكم بالمؤبد، عشرة أو عشرون مؤبّدًا يعيشها أسرانا خلف قضبان السجان. ذلك المؤبد يساوي من السنين خمسًا وعشرين ومن الأيام 9125 يومًا. ولك أن تضع إلى جانب كلِّ منهم ما قضى وما ينتظره من أيام خلف جدران باردة. فالأيام لم تعد تعنيهم وهم يتلّمسون وجوههم ويحصون ما أضافت عليها من تجاعيد. ويسرقون الوقت من الوقت لتسجيل أحداث العالم الخارجي.

 

أراودك شعور يومًا بأن أصبحت روحًا تمتطي جسدًا يغترب عنك شيئًا فشيئًا، فترسل أنفاسك تتحسّس أطرافك لتُقنعَ نفسك بأنّك ما زلتَ أنت.. تحاول التقاط حضن الأم، والاحتفاظ بمعنى الشوق واللهفة، واسترجاع قبلةٍ على جبين أطفالك في الصباح.

ويحدث أن يتفنّن السجّان في تعذيبك على طريقته وكأن يده مغلولة إلى عنقك، تحاول نزع أنفاسك، وأنت توزّع الألم على كلِّ خلاياك، حفاظًا على جلَدك. وقد يأتيك العذاب عبر آهاتٍ ممزوجة برائحة السياط والشَبْح، تخترق جدران صمتك. 

 

وأنت تُمارس حجرك المنزلي بين عائلتك، لديك كل ما أبدع خلق الله لترفيهك، يأتيك ما تشتهيه وتتواصل مع مَن يهيم الشوق إليه. لك أن تخجل أمام من يلوكون الذاكرة ويستحضرون الصور لممارسة طقوسهم اليومية في رسم الوجوه ومحاولة إضافة تعديلات سرقها الزمن من بين أشفارهم.          

وقد يسرجون ذكرياتهم ويمعنون في اجترارها خوفًا من ضياعها بين زوايا الحياة الرتيبة، وما يتخلّلها من رسم المستقبل على جبين الغمام المتسلّل على جدار سماء صافية بين فسحتين.

 

وأنت في حجرك الإرادي، متذمّرًا بما لديك، تذكّر بأنَّهم مثقَلون بعزلتهم، بوحدتهم، يخطون يومياتهم وحكاياتهم بدموع عزّة النفس المتساقطة على أرض الزنزانة ويكتبون بها وصاياهم.