في بداية الستينيات من القرن الماضي تعرفت على الطيب عبد الرحيم حين كان طالبًا في كلية التجارة بجامعة الأزهر الشريف في القاهرة، وكنت طالبًا في كلية التجارة قسم إدارة الأعمال في جامعة عين شمس التي كان مقرها أنذاك في حي المنيرة على حافة شارع القصر العيني، وكانت معرفتي به شيئًا يثري الوجدان، ليس فقط لأننا كنا في نفس العمر تقريبًا بل لأنه إبن الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود شاعر الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في العام 1936 واستمرت شعلتها في الأعوام التالية بأشكال عديدة، حيث لخص والده الأمر كله في قصيدة من الروائع العالمية للشعر العربي المعاصر في ذلك الوقت:

سأحمل روحي على راحتي وألق بها في مهاوي الردي

فاما حياة تسر الصديق وإما ممات  يغيظ العدى

لا اعتقد أن احدًا من الشعب الفلسطيني لم يكن يحفظ تلك القصيدة، وبعد ذلك بوقت قصير تعمقت علاقتي به، حين وجدنا نفسينا عضوين في حركة فتح التي أطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة في مطلع عام 1965، بل وجدنا نفسينا في قلب عنوان مجيد من عناوينها وهو إذاعة صوت العاصفة في مقرها الذي لا ينسى "رقم 4 شارع الشريفين المتفرع من شارع قصر النيل في قلب القاهرة" التي إنطلق صوتها في شهر مايو عام 1968، ولاشك أن تلك التجربة في إذاعة صوت العاصفة قد صهرت كل الذين شاركوا فيها، لأنها شكلت معنى كبيراً في حياتنا ظل يومض في مسيرة العمر الذي انتقلنا فيه إلى تجارب كثيرة، فلقد انطلق صوت العاصفة ليكون الصوت الفلسطيني الأول بعد نكبة عام 1948 التي حولتنا إلى شيء لا يشبهه شيء أخر، لاجئين، وها هو صوت العاصفة يقول إننا فلسطينيون وإننا منتمون إلى تجربة تكاد تكون في خصوصيتها وصعوباتها تشبه ثورة المستحيل.

الطيب عبد الرحيم الذي صهرته التجربة القاسية لم يكن قد وصل الخامسة من عمره حين استشهد والده وكان عليه أن يحمل ميراث الشهادة والشهداء، وأنا واثق أنه حمل التركة بكل جسارة واقتدار، فقد كان من الجيل الأول الذي انتمى لحركة فتح أي إلى فلسطين التي كانت فتح ولا تزال بصمتها الوراثية العميقة، ولأننا تعلمنا في فتح أن نكون مستعدين للمهمة مهما كانت، فقد ذهبنا إلى مسارات متعددة من الإعلام إلى العمل العسكري حيث ذهب الطيب عبد الرحيم إلى دورة من أوائل الدورات العسكرية في الصين ثم ذهب إلى الصين مرة اخرى كسفير لفلسطين، وعاد من الصين ليعمل مفوضًا سياسيًا ثم سفيرًا في بلد آخر مثل يوغسلافيا والقاهرة وعمان، ثم إلى المجلس الثوري لحركة فتح وإلى اللجنة المركزية بالإضافة إلى عضويته في المجلس الوطني والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان الأمين العام للرئاسة الفلسطينية منذ قامت السلطة الوطنية حتى انطفأت شعلة السراج المضيءهذا بالاضافة إلى نشاطه التنظيمي والاعلامي والثقافي، وفي كل تلك المهمات ظل على نفس منهج الولاء لفلسطين، وكان هذا أكبر الأوسمة لأنه لا شيء في الدنيا كلها يعادل قرارك الذي اتخذته مع نفسك بأن تكون فلسطينيًا، ياله من اختيار صعب أثقل من الجبال الرواسي، وكان الطيب طازجًا وحلو المذاق في خياراته مثل فاكهة أول المواسم ذلك لانه بحكم التجربة حمل منذ أيامه الأولى حملاً صعبًا جدًا إسمه ميراث الشهادة ولأنه إختار بملء إرادته أن يكون فلسطينيًا وما أصعب وما أعظم أن تكون فلسطينيًا .

طوال مسيرة ممتدّة، حافظ الطيب عبد الرحيم على طهارة القلب وصدق الانتماء، كان أصعب شيء عليه أن يتظاهر بما ليس فيه، أو أن يدخل في لعبة الولاءات الملونة، أستميحكم عذرًا يا قرائي الأعزاء، عند هذا الحد سأتوقف في الحديث عن صديقي الطيب عبد الرحيم، أستأذنكم لأني سأذهب إلى البكاء.

يحيى رباح