لا يفقد الوطن الأوفياء وإنما يرثهم، فعندما تذوب أجسادهم في تراب أرضهم ترقى أرواحهم إلى بارئها لتبصر النعيم في فردوس الخلود ثم تعود إلى ذاكرة شعب لا تموت.
ارتقت صباح أمس، روح فدائي مثقف في زمن الثورة، ومناضل قائد صاحب منطق سياسي وخطاب ونطق سليم في زمن الدولة.
لن نحظى بترحاب الطيب عبد الرحيم وبابتساماته ودعاباته بعد اليوم، لكن للطيب أبو العبد في قلوبنا العاقلة محبة رحبة وسعها السموات والأرض. 
لم يكن الطيب عبد الرحيم تقليديًا، لكنه اعتنق مفاهيم الثورة وحرص على أداء مناسك المناضلين في يوميات الكفاح وطرز تقاليدهم الأصيلة حتى بات رمزًا في ثراث الثورة الفلسطينية المعاصرة.. وكأننا عند كل لحظة من زمن فلسطين على موعد بين الوريث والموروث.
غادر الدنيا إلى الأبد إبن عائلة الفقهاء الطيب عبد الرحيم، لكن كيف لوريث "الشاعر الشهيد" عبد الرحيم محمود أن يموت وهو الذي ما زال صدى شعره يطرق وعينا فيتمدد ويلمع كالذهب، فهذا بطل معركة قرية الشجرة عام 1948 الذي غنى قبل عشر سنوات من استشهاده:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان ورود المنايا ونيلُ المنى
سمعنا الطيب عبد الرحيم بعد منتصف الستينيات ولمسنا قدرته على التعبير عن الأفكار والمشاعر والمواقف، ورفع من شأنها عندما قدمها بإيقاعات حساسة كان شعراء يفتقدونها رغم أنه لم يقدم ذاته يومًا كشاعر، فكان صوت الشعب الفلسطيني الذي يخاطب العالم عبر أثير صوت الثورة الفلسطينية (إذاعة حركة فتح) فصدقت فدوى طوقان بوصفها والده عبد الرحيم بصوت الشعب.
يمضي الأصيل إبن الأصيل في المسارات القصيرة والطويلة، والوعرة والصعبة وشبه المستحيلة حتى نهايتها، فدروب هجرة وسفر الفلسطيني الوطني ابن البلد تبدأ من (فلسطين) وتنتهي فيها أو من أجلها، فالوطن هو خط البداية وخط النهاية، وكما هاجر الأب عبد الرحيم إلى العراق وانتسب للكلية الحربية العراقية وتخرج ضابطًا برتبة ملازم أيام الملك غازي بن فيصل بن الحسين وعاد الى فلسطين ثائرًا مقاتلاً، في جيش الانقاذ، كان الوريث الطيب عبد الرحيم في أول دفعة من فدائيي حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح الذين نسبت للأكاديمية العسكرية في مدينة نانجينغ في جمهورية الصين الشعبية بعد تخرجه بدرجة بكالوريوس تجارة من جامعة الأزهر في القاهرة في العام 1962 وبعد انضمامه للحركة بداية انطلاقتها.
كان أبو العبد المفوض السياسي، الاعلامي، السفير، القيادي القائد أخا للجميع، عرفناه حريصًا على إحترم الآراء والأفكار والمقترحات أيّا كان المستوى التنظيمي أو الرسمي لطارحها أو المعبر عنها فكان مستمعاً جيدا ومحاوراً لبقاً، وأشهد انه كان حريصاً على الحضور -رغم حالته الصحية- والاستماع لكل المناقشات في اجتماعات المجلس الثوري لحركة فتح والإدلاء برأيه ورؤيته بلغة واضحة رصينة دقيقة، لا لبس ولا تأويلات لها، لغة مقنعة، فنطمئن أننا أمام عقل يعتمد التجربة وخلاصاتها، وليس العاطفة ومكاسبها، كنا نتعامل مع شخصية بمستوى رجل دولة كتعبير حي لشخصية الفدائي المناضل المثقف.
عرفنا الطيب عبد الرحيم الإنسان كما عرفنا الأخ أبو العبد القائد، وأعتقد أن تقديم الرئيس محمود عباس عبارات الأخ العزيز والصديق الوفي على العبارات ذات المضمون الوطني والسياسي كانت خير ملخص لشخصية "القائد المعلم" وسيكون أبلغ لو قدمنا النص كما صدر عن الرئيس إذ جاء في بيان النعي: "نودع اليوم أخًا عزيزًا وصديقًا وفيًا ومناضلاً صلبًا قدم الكثير لفلسطين وشعبها، كان مثالاً للعطاء والتضحية متمسكًا بالثوابت الوطنية والشرعية الفلسطينية، تربت على يديه أجيال كثيرة في هذه المسيرة، فكان مثال القائد والمعلم، علمًا من أعلام فلسطين ومسيرتها التحررية، مدافعًا صلبًا عن القرار الوطني المستقل متمسكا بتقاليد الثوار المناضلين في كل مراحل حياته".
كان الطيب عبد الرحيم مدركًا لأبعاد المخططات والمشاريع الاستعمارية الجديدة فقال قبل ثلاث سنوات: "نمرّ بأصعب مراحل كفاحنا الوطني، ونواجه أخطر التحديات والمؤامرات التي تحاول النيل من معنويات شعبنا ومن الشرعية الفلسطينية، الوطنية والدستورية والنضالية، بمخططات اليمين الإسرائيلي المتطرف أولاً ومؤتمرات التجميع المحمومة من المدفوعين والمدفوع لهم ثانياً، وإننا نرى أن كل هذه المخططات وهذه المؤامرات إنما تتواصل لأن نضالنا الوطني وبخاصة عبر حراكنا السياسي المنظم والعقلاني والحكيم والذي يقوده الرئيس أبو مازن بات يراكم الإنجازات ويؤتي ثماره المرجوة تباعاً".
قال عن القدس والمقدسيين: "علينا الحذر من مخططات الاحتلال لتهويد القدس وبناء كنيس مقدمة لبناء الهيكل المزعوم، يجب ألا نغفو ولا ننام على الانتصار ". وقال: "إن المراهنة على المقدسيين كانت في محلها، وأن كل مخططات الاحتلال لن تثنيهم في أيّة لحظة عن حماية مقدساتهم في أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين" .
أما عن الوحدة الوطنية والمصالحة فكان للطيب عبد الرحيم رؤية بعيدة المدى واقعية مقطوعة الصلة باللغة الشعاراتية الجوفاء عندما قال: "إن القيادة أكدت للجميع أنها مع المصالحة، لأنها تؤمن بأن وحدة شعبنا هي الخطوة الثابتة لتحقيق الانتصار، لكن للمصالحة متطلبات أولها إنهاء الانقسام حتى لا يتحول إلى تقسيم".
كان أبو العبد موازنًا بين عروبيته كثقافة ووطنيته الفلسطينية كعقيدة فهو القائل: "إننا والأردن الشقيق في خندق واحد، فللأردن الشقيق الوصاية الدينية على الأماكن المقدسة ولنا السيادة".
قبل أربعة أعوام أي في العام 2016 قال أثناء تكريم رباعي الحوار الوطني التونسي الحائز على جائزة نوبل للسلام في العام 2015: "إن عزيمتنا لن تلين وواثقون من استمرار دعم جميع قوى الحرية والعدالة والسلام في العالم، وعدم السماح بتهميش قضية فلسطين، لأنها صمام الأمن، والأمان، والاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط بل، والعالم، ولهذا كانت مبادرة السلام العربية".
واستطاع عبد الرحيم في هذا الخطاب وضع الخوط الفاصلة بين الكفاح المشروع ومؤيديه والارهاب وداعميه ومموليه وكان من أوائل الذين قدروا ما يدار في الغرف السرية وما يرسم للمنطقة من مخططات تقسيم فقال: "إننا نؤكد أن من يقف دون حل القضية الفلسطينية بإقامة الدولة الفلسطينية هو أول داعم للإرهاب، ومساند له، مهما تشدق عكس ذلك".
وقال أيضًا بعد تشخيص الحالة والإشارة بوضوح للأدوات المستخدمة لتنفيذ المشروع: "لا نشك لحظة واحدة أن الإرهاب والداعمين له بشكل مباشر أو غير مباشر هو المدخل الذي يحاولون من خلاله إعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية من جديد في المنطقة، بعد مرور ما يقرب من مائة عام الآن على اتفاقية سايكس بيكو".

موفق مطر