فجعنا صباح أمس الأربعاء، بِرحيل القائد الوطني الكبير، صديقي العزيز الطيب عبد الرحيم. أحاول أن أرثيه، أن أنصفه في زمن انتشار جائحة الكورونا، التي ألقت بظلال كثيفة على كل البشرية، وليس على فلسطين ومصر حيث ارتقت روح البطل ابن البطل إلى بارئها، وانتقلت إلى السماء العلا لتواصل حضورها في عليين مع الأنبياء والرسل وبني الإنسان من الخالدين. حيث حال الفيروس اللعين دون تكريم الراحل الفلسطيني العربي والإنسان الطيب كما يليق به، وبمكانته، وقدره، وعطائه، وثباته وتجذر مواقفه دفاعًا عن الأهداف والثوابت الوطنية، التي أبى إلا أن يكون مخلصًا لها حتى الرمق الأخير.
سخرية القدر أحيانًا تكون مؤلمة، وفاجعة وسوداء، كما التراجيديا، التي تحاصر الشعوب وأبطالها في مواجهتهم المصير بشجاعة فولاذية وهذا ما تجلى في رحلة حياة رجل تراجيدي من وطني. الذي ولد وسط الأعاصير، وغادر الدنيا في فوضى جائحة الكورونا. ولد الطيب عبد الرحيم عام 1944 في بلدته عنبتا، وما كاد يتلمس معالم الحياة حتى كانت فاجعته الأولى والمركبة، ففقد والده الشاعر البطل، الذي استشهد في معركة الشجرة في تموز/يوليو 1948 عن 35 عامًا، ومازال رفات جثمانه خالدًا في مدينة الناصرة الشامخة حتى يوم الدنيا هذا. ورغم موته المبكر، إلا أنه لقب بشاعر الثورة من خلال قصائده الوطنية والقومية الفذة، ومنها قصيدته الخالدة "روحي على راحتي"، التي يقول فيها: سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياةُ تسّر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدى/، فتربى يتيمًا في زمن النكبة، التي أصابت الشعب الفلسطيني عام 1948 في مقتل مع قيام دولة المشروع الصهيوني على انقاض تشريد وطرد قرابة المليون فلسطيني من أرض وطنهم الأم إلى المنافي وبلاد الشتات.
وكالأبطال الأسطوريين كابد الطيب الصغير شظف الحياة في رعاية والدته وأقاربه، وواصل مسيرة والده البطل المبدع، وحفظ عن ظهر قلب كل بيت شعر، وكل كلمة أنتجها الشاعر المقاتل عبد الرحيم محمود. ومع تأسيس حركة فتح، وإعلان انطلاقتها في عام 1965 التحق بها في القاهرة حيث كان يدرس في كلية التجارة. وتتلمذ على يد قائد الثورة الرمز ياسر عرفات. وتابع مسيرة الكفاح في دروب الثورة النقابية والإعلامية والثقافية والسياسية والدبلوماسية والتنظيمية مدافعًا عن حقوق وثوابت الشعب والقضية والثورة.
لم تثنه الصعاب وقسوة الحياة عن مواجهة تحدياتها المعقدة، فانغمس من رأسه حتى أخمص قدميه بالثورة، لأنها ملاذه، وخياره، الذي لا خيار سواه لرد الاعتبار لوالده البطل ولشعبه العظيم ولأهدافه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة. وتقلد أبو العبد مناصب قيادية عدة في ميدان العمل النقابي، والإعلامي، والسلك الدبلوماسي والتنظيمي. عمل الراحل سفيرًا لفلسطين في كل من الصين ويوغسلافيا ومصر والأردن، وأصبح عضوًا في المجلس الثوري لحركة فتح، ثم عضوًا في اللجنة المركزية للحركة، وأمينًا عامًا للرئاسة الفلسطينية منذ تأسيسها حتى رحيله أمس الأربعاء الموافق 18 آذار/ مارس 2020، وعضوًا في المجلس المركزي لمنظمة التحرير. وحصل على العديد من الأوسمة الفلسطينية والعربية والدولية.
كان الطيب بسيطًا ومتواضعًا بقدر ما كان قائدًا شجاعًا، ودبلوماسيًا ناجحًا، استطاع نسج علاقات وطيدة مع قيادات وأركان الدول، التي عمل فيها، وحافظ عليها حتى آخر يوم في حياته،. كما كان خفيف الظل، صاحب نكته مميز، ولماح وحساس حتى النخاع، لا يقبل الضيم، يأبى البقاء في موقع يشعر فيه بالغبن. ذاكرته حية وخصبة، كأنها كتاب مفتوح في استحضار الأحداث والمحطات التاريخية، التي عاشها، وكان يدون أهمها في مذكراته، ويستلهم منها الدروس، ويتلوها على غيره من أقرانه وأصدقائه ليستفيدوا منها في قراءة الواقع وتداعياته. أدعي أنني تعلمت منه الكثير، وتعرفت على تفاصيل العديد منها.
انحاز أبو العبد لقناعاته الوطنية والقومية. ولم يغادرها، كان وفيًا لها، ومتجذرًا في أعماقها. كان يجامل الكثيرين بدبلوماسيته، ولكن عندما يجد الجد تجده بركانًا ثائرًا يطلق العنان لبلاغته العربية ليبوح بمكنوناته السياسية والتنظيمية.
أبت الكورونا إلا أن تلازم رحيله، لتلقي بظلالها التراجيدية على وداعه للدنيا الفانية.
رحل الطيب في قاهرة المعز حيث أحب، وعشق بين أفراد عائلته، وبين أبنائه وأحفاده وأنسبائه ومحبيه. لكنّ أبا العبد باق في ذاكرة الشعب والثورة وحركة فتح والسلطة والمنظمة، خالد في سجل المناضلين الأفذاذ.
وداعًا أيها الصديق العزيز، كنت أخًا وصديقًا عزيزًا، وستبقى كذلك بالنسبة لي ما حييت.