مشاهدات لا رابط بينها، خطرت لي، كموضوع للتغريدة، وللهرب من وجع قلب اسمه فلسطين.. فلسطين ذاتها ليست وجعا، إنها الجميلة والحنونة المسبيّة من الأعداء وبتواطؤ بعض الأشقاء، وغدر بعض الأبناء.. قبل أن استرسل وأعود الى ما هربت منه، رحمة بقلبي الصغير، سأترك فلسطين، تغفو قليلا في حنايا القلب..

تستهويني مراقبة سلوكيات الناس، أراقب بصمت ليس من باب الفضول، لأني أمقت " الحشرية " والتدخل بما لا يعنيني بشكل شخصي. لكن من باب دراسة طبائع البشر، وردات أفعالهم، وأحيانا لملاحظة الفوارق الثقافية بين البشر، فلله في خلقه شؤون..

الحافلة الكبيرة، تسير نزولا صوب وسط المدينة، القسم الذي جلست فيه، خلا الا من راكبين نرويجيين، شاب وصبية جميلة. ضغطت الصبية على زر أحمر، للنزول في المحطة التالية. لم ينتبه السائق، وتابع سيره متجاوزا المحطة، بينما الصبية واقفة قرب الباب، خدمة لها أطلق الشاب صفيرا عاليا، فتنبه السائق وتوقف فجأة، وقعت الصبية أرضا.. فاعتذر السائق لها، وكذلك الشاب، وأبديا أسفا شديدا. بابتسامة قبلت اعتذار السائق، وطمأنت الشاب، الذي أراد صنع جميل، فجاءت النتيجة معاكسة، هم أيضا يعتقدون مثلنا " إنما الأعمال بالنيّات".. وأنا ابتسمت لهم جميعا وبإشارة " لايك ".. فكرت لو حدث هذا الأمر في بلادنا، فكيف ستكون ردّات الفعل.

كان يوما قارس البرودة، درجة حرارة بلغت ثماني عشرة تحت الصفر. شاب وصبية يسيران أمامي وقد التصقا ببعضهما طلبا لبعض الدفء. صادف مرور رجل، بدا واضحا من ترنحه وعدم توازنه، أنه تجرع زق خمرة. استوقف الكحولي الشاب، وسأله بلسان أثقلته الخمرة والكلمات: هل يمكنني استعارة امرأتك؟ بهدوء أجاب الشاب: لا آسف جدا. اعتذر الكحولي عن طلبه وتابع الجميع طريقهم. هكذا حادثة في بلادنا، تنتهي بأحد الرجلين في المستشفى والآخر في السجن..

أحد المثقفين العرب، وحامل لقب دكتوراه. معظم كتاباته فيسبوكية. وكان كثير التعرض والهجوم على المفكر والكاتب النرويجي وليد الكبيسي، الذي أنف وترفع عن الرد عليه، حتى لا يعطيه أكبر من حجمه، وليس ثمة أفكار محددة للردّ عليها أو مناقشتها، بل كان التهجم أقرب الى الردح والشتم. عندما يئس الشاتم من فعالية أسلوبه، بدأ " يغزل ناعما "، تقرب مني وطلب لقاء وليد، الذي لم يسبق أن التقيا.. كنت أعرف مسبقا أن ليس لوليد الوقت، لإضاعته كيفما كان. وانتهى الأمر.

لاحقا وفي حفل تأبين ضخم لوليد، كان المثقف حاضرا، وبعد انتهاء الحفل، جلسنا مجموعة من الأصدقاء، وبدأ المثقف يتلو أكاذيبه، لأن الكذب على الميتين، كما في أمثالنا. قال: لا تجوز على الميت الا الرحمة، رغم محاولاته لتشويه سمعتي، وإيذائي بالشتم والتهجم، لكني كنت أرفع وأسمى من أن أرد عليه بالمثل، لكن لدي شعور بالأسف، لأنه حاول التودد لي وطلب مقابلتي عدة مرات، ولم ألبِّ طلبه. الله يسامحه ويغفر له !! نموذج لبعض مثقفينا العرب في المهاجر.

رجل خمسيني، بكامل أناقته، ولباسه " المودرن "، يضع شالا حريريا حول رقبته، مع أحدث تسريحة شعر شبابية. خلته يسير وحيدا، في أحد شوارع أوسلو.. لكن المرأة التي كانت تسير خلفه، هي زوجته أو تابعة له، وقد ارتدت اللباس الشرعي، وحجابا أسود اللون، قد غطى معظم جبينها، وقد خلا وجهها من أي زينة، أو من لمسة اهتمام منها. كلامه باللغة العربية معها كان جافا ومقتضبا.. فقط لنفسه يعطي الحق بمواكبة العصرنة..

في أميركا، كانت هوايتي وابنتي مراقبة الناس وتخمين أصولهم التي انحدروا منها. فالمجتمع هنا خليط أمم شتى، لكن القانون جعلهم أمة واحدة. جلست وابنتي عصر ذات يوم على جانب مسبح فندق هيلتون. رجلان بدوا كتوأمين شبها، لم نحسم أمر انتمائهما، وإن رجّحنا الأصول العربية..وبعد أن قمنا بمهمة التخمين، انشغلت ابنتي بلعبة الورق، وأنا انشغلت في قراءة كتاب. سمعنا صوتا يتكلم مع ابنتي باللغة الإنجليزية، بلكنة غريبة. قال لها: اذا كنت تحبين لعب الورق، عليك بزيارة لاس فيغاس! كان صوت أحد الرجلين. تحادثنا قليلا، وسألته: من أين أنتما؟ أجاب أحدهما: نحن أخوان من" إسرائيل "، وأنت؟ من فلسطين التاريخية. وتابعت، من أي منطقة في فلسطين جئت؟ من أورشليم.. وأنت من أي منطقة في اسرائيل؟ من عكا التاريخية، ومن قبل ظهور الديانات السماوية والوعود الخرافية.. اعترفا بأنهما عراقيان، وهاجرا الى فلسطين المحتلة أواخر الخمسينات! في سرّي، دعوت عليهما أن يبتليهما كيوبيد بعشق وحنين لأوطانهم الأصلية، تماما كعشقي لموطني الأول.. أراقب ولا أموت همّا، بل أفهم جنس بني البشر.