في هذه الفترة من كل عام يعتلي الصوت الفلسطيني منبر الأمم المتحدة، مخاطباً العالم ممثلاً بكل رؤسائه وقادته، ومذكرًا العالم المتقدم والنامي، ومذكرًا الأمم المتحدة بكامل منظماتها وأجهزتها المعنية بحقوق الإنسان، بأن على هذا الكوكب قطعة أرض ما زالت تعاني من الاحتلال وويلاته، وما زال هناك على هذه الأرض شعب يستحق الحياة والاستقلال أسوة بباقي شعوب الأرض، صوت يخاطب ضمير العالم الحاضر والغائب، بلغة واضحة هناك أرض كانت تسمى فلسطين، ورغم الاحتلال والاستيطان ومرور السنين، ما زالت تسمى فلسطين.

في أيلول من كل عام وعلى عتبات اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، وعلى مرأى ومسمع ممن يرغبون بسماع صوت الحق والحقيقة، يخرج الصوت الفلسطيني واضحًا مقاومًا وعنيدًا على الكسر، فهو قبل كل شيء صاحب حق أزلي في أرض ولد منها وصمد عليها، ورثها منذ آلاف السنين وسيورثها فلسطين الحرة المستقلة لآلاف الاجيال مهما هبت الرياح ومهما اشتدت الأعاصير ومهما اشتدت ويلات النكبات والتشريد والحصار، هذه هي كيمياء الجينات الفلسطينية التي تستعصي على الاحتلال وجبروته، فرغم كل سنوات القهر بقي الصوت والرأس الفلسطيني شامخاً، رغم ابتلاع الأرض وحشية جرافات الهدم والتدمير وتغول الاستيطان، بقيت الأرض الفلسطينية عصية على المحتل، وكم هي صعبة على الاحتلال الغاشم أن يدرك قوة عدوه، فقد علمتنا تجارب الشعوب ودروس الحياة أن هناك حالات قليلة التي أدرك فيها المحتل ضرورة اتخاذ قرارات استراتيجية قبل فوات الآوان ولملمة أذياله واختفائه دون عودة، فالاحتلال دومًا الى زوال طال الزمن أم قصر، والشعوب تبني نصرها وأفراحها على أنقاض الاحتلال مهما كانت الأثمان، فنهار النصر أسطع مليون مرة من ليالي الاحتلال مهما كانت طويلة وحالكة السواد.

سيدي الأمين العام، أيها السادة المجتمعون من كل أطراف الأرض، نخاطبكم بحاضركم وماضيكم ومستقبلكم، نخاطبكم بكل لغاتكم، بكل ثقافاتكم وقيمكم، التي تؤمنون بها أو أقسمتم على احترامها، نخاطبكم بقوانين المؤسسة التي تجتمعون تحت قبتها منذ سنين، اما آن لهذا الشعب ان يستريح كباقي شعوب الأرض؟ اما آن لهذه الأم أن يكون لها بيت يجمع ذكريات ماضيها ويحمي مستقبل أبنائها دون تهديد بالهدم أو الاعتقال أو الموت؟ أما آن لهذا الاقتصاد أن يتنفس حريةً كباقي اقتصادات العالم؟ أما آن لنا كفلسطينيين ان نخرج من نير أبغض وأطول احتلال تعرفه الانسانية منذ وطئت أقدام الإنسان وجه الأرض؟

تزدحم أدراج مكاتب منظمة الامم المتحدة بمئات القرارات التي تنتظر التنفيذ منذ سنين، قرارات ينظر لها بأن تؤسس لحل تاريخي للصراع، الا أن الصراع ما زال على حاله، بل ان الواقع يواجه موجات متجددة من المواجهة والصراع بين الحق في الحياة واحتلال يسعى بكل الوسائل لاطالة أمده على حساب الارض والانسان، علاقة تحد بين طرفين، طرف يبدع في الصمود وطرف يستميت بممارسة كافة أشكال الاستغلال والاعتداء من أجل عدم الخسارة مستخدمًا ترسانة متجددة من أدوات القمع والحصار ضد شعب أعزل، حلمه ان يبني وطنًا حرًّا ودولة مستقلة كباقي الشعوب.

رسمياً تواجه القيادة الفلسطينية تحديات بفعل الاحتلال وسياساته تعجز عن الصمود أمامها أعتى الدول الغنية والمستقلة، ومع ذلك يبقى القرار الرسمي الفلسطيني بالصمود مهما بلغت الضغوط السياسية والاقتصادية، ومحاولات خنق الصوت والاقتصاد الفلسطيني، التي كان أبرزها محاولات كسر الموقف المشرف والتاريخي للقيادة في مواجهة صفقة القرن ومحاولات تدفيعها الثمن الاقتصادي والسياسي لهذا الموقف، من خلال افتعال وتجديد مسلسل الحصار المالي والتهديدات المباشرة وغير المباشرة للقيادة الفلسطينية، حيث أشعلت حكومة الاحتلال العديد من الإجراءات بعيدًا عن الاتفاقات المتفق عليها وخاصة ما يتعلق بالتحويلات المالية وعوائد الضرائب والرسوم التي كانت تجمعها بالنيابة عن الطرف الفلسطيني، وتشديد تلك الاجراءات وتصاعدها منذ عام 2018، وعدم التزام حكومة الاحتلال بتحويل المبالغ الشهرية للسلطة الفلسطينية من ضرائب الدخل، وضرائب الاستيراد والرسوم الأخرى على الواردات التجارية التي تخص الجانب الفلسطيني التي يبلغ متوسطها الشهري 188 مليون دولار وفقًا لتقديرات المحللين لبيانات وزارة المالية, ورغم هذا الضغط فإن السياسة الفلسطينية والموقف الرسمي لم يقبل التنازل عن حقوق المال الفلسطينية واعتبر اجراءات الاحتلال سطوًا على الحقوق لأغراض سياسية مهما كانت الاسباب والمبررات التي تحاول سلطات الاحتلال تقديمها، ولهذا تسعى السلطة الفلسطينية لخلق البدائل وتعزيز الصمود الاقتصادي والدفاع عن الموقف السياسي الفلسطيني وعدم الرضوخ لشروط الاحتلال، انها جبهة من المواجهة في كافة ميادين السياسة حتى وان كانت دون مفاوضات!

ما يزيد من حجم الضغوط وشراسة المواجهة ان الاحتلال لا يترك مساحة او زمنًا فاصلاً بين سياساته وضرورة مواجهتها، فقواته المنتشرة على الطرقات تذكر باجراءات الاحتلال وقوة بطشه وانفلاته من الاعراف والمواثيق الدولية، فنيرانه تصيب حتى النساء والاطفال والمواطنين العزل، أحياناً تسأل عن السبب أو الدافع الذي يجعل جنديًّا مدججًا باحدث أنواع الاسلحة ويتمترس خلف سواتر محكمة، يقوم بإطلاق النار على طفل أو مسن أو سيدة تمر بكل هدوء على حاجز وضع لقهر الناس أصلاً! أهي حالة الضعف وعقيدة الخوف الدائم الساكن في الباطل حينما يواجه صاحب الحق؟ أم هي الانفلات من المحاسبة مهما بلغت الافعال، فمن أمن العقاب أساء الادب، كما يقولون؟ ولكن هل لهم ان يقفوا ولو دقيقة ليسألوا انفسهم، ليسألوا من أطلق النيران ومن أمر بإطلاقها؟ هل هذه السياسات والأوامر حققت هدفهم بكسر ارادة الحياة لشعب يعيش ليل نهار ليكون شعبًا حرًّا كباقي شعوب الارض تحت ضوء الشمس؟ ألم يفهموا بأن اجراءات الاحتلال تكسرها صرخة طفل مهما كان عدد الجنود الذين يمسكون بأطرافه مدججين بالسلاح؟!

فسياسات القمع والتخويف لا تستثني أحدًا، فالحجر والشجر والمسكن وقاطنوه معرضون لإجراءات الاحتلال في كل لحظة، فكم هي عدد المرات التي ستشرد فيها تلك الاسرة من منزلها؟ فمفتاح بيتها القديم قبل النكبة ما زال معلقًا على صدر المكان، وبجانبه مفتاح البيت المؤقت بعد النكسة الذي هدمته جرافات الاحتلال، وبينهما مفتاح البيت الذي هدمته سلطات الاحتلال بعد انتفاضة الاقصى قبل أعوام، وهذه الأيام تستعد الأسرة لمواجهة تشريدها الرابع بعد التهديد بإعادة هدم البيت المؤقت للمرة الثالثة والرابعة وربما لن تكون الأخيرة؟ هذه حكاية العديد من الأسر في مخيماتنا الفلسطينية، تضحية منذ بدايات الاحتلال وأثمان تدفع في المعتقلات، وفي مقابر الأرقام، وحتى في المستشفيات بسبب القمع والمداهمات، انها مواجهة مستمرة من أجل الحق في حياة حرة وكريمة، ولم يسمع الاحتلال أجيالاً فلسطينية تردد دون خوف، "عظماء فوق الأرض أو عظاماً في جوفها"!.

لقد واجه شعبنا وقيادته وحتى الآن كافة الاجراءات التي تفرضها سلطات الاحتلال باستخدام موازين القوى لفرض الامر الواقع، ويشهد العالم كل يوم حلقة جديدة من جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني من مصادرة أراض وهدم المنازل والتوسع الاستيطاني وغيرها من الإجراءات التي بات القاصي والداني يدرك ما تشكله من خطورة بالغة على مستقبل تحقيق السلام العادل والشامل والمبني على أساس حل الدولتين، وهذه نقطة مهمة على كل العالم ادراكها، الاحتلال يضعف عبر الزمن وارادة الشعب الفلسطيني بشجره ومدنه وابنائه سينتصر لا محالة، لكن على المجتمعين تحت سقف مقر الامم المتحدة هذا العام وفي كل مناسبة ان ينحازوا الى المبادئ والقيم والشرعية الدولية التي أسسوها ووقعوا عليها، أن يتحركوا للدفاع عن قيمهم وشرعيتهم لأن ذلك سيفضي دون شك للوفاء بحقوق الشعب الفلسطيني وباقي قضايا العدل والسلام في العالم، وهذا هو التحدي الحقيقي لهذه الهيئات والمؤتمرات الدولية لحماية ما تبقى من مصداقية لها أمام نفسها قبل أي شيء!

إنها حلقات من ملحمة يقودها الانسان الفلسطيني في كل مكان وفي كل المواقع، في الغربة يناضل من أجل فلسطين، وترى حتى الاطفال يحملون وطنهم في قلوبهم وعلى رؤوس الاشهاد أينما ذهبوا وأينما شاركوا رغم البطش والتنكيل والملاحقات، تمضي الأيام والاجيال تكافح وقد تتعثر او تتأخر ولكنها لا تنسى، ففي كل مناسبة تتاح لإعلاء اسم فلسطين يتسابق حتى من لم تطأ اقدامه ثرى فلسطين، يتسابق لتكون فلسطين في المقدمة، يرفرف علمها عاليًا وتزهو صورة القدس في كل المناسبات، وإذا كان هذا هو حال من يبتعدون بالجغرافيا عن قلب الوطن، فكيف هو حال من يواجهون كل صنوف التحديات والمؤامرات ومع ذلك ينتصبون في وجه الرياح العاتية، يعيشون في كفاح مستمر، يعيشون بكل فخر وكرامة واعتزاز بوطنهم فلسطين، واذا قضوا على طريق النصر فإنهم يموتون وقوفًا كالأشجار الشامخات على صدر فلسطين.