لم يُلحق أيُّ شيء ضررًا بالقضية الفلسطينية بقدر ما ألحقه بها المال السياسي، فواقع الشعب الفلسطيني، باعتبار أنَّ قسمه الأكبر مشرَّد وموزَّع على عدة دول، والجزء الآخر تحت الاحتلال، أو داخل (إسرائيل) يعاني الاضطهاد واللا مساواة، سهَّل مهمّة المال السياسي، وأن يفعل فعله، التآمري في شقِّ الصف الفلسطيني وانقسامه.

في تجربة "حماس" وسيطرتها على قطاع غزّة، واستمرار الانقسام وتعميقه، لعبَ المال السياسي دورًا أساسيًّا في استمرار حالة الانقسام. هذه الحقيقة التي كشفَ عنها قبل أيام، أحدُ مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، والذي قال: (إنَّنا- أي الحكومة الإسرائيلية- نستغل المال الذي يُرسَل إلى "حماس" عبرنا، لفصل قطاع غزّة عن الضفة، وقد نجحنا في ذلك)! من هنا فإنَّ أيَّ مالٍ يأتي خارج القنوات الرسمية للشعب الفلسطيني، هو مال له أهداف وأجندات، وبالتأكيد ليس في مصلحة الشعب الفلسطيني.

تاريخيًّا، استخدمت أنظمة عربية وغير عربية، المال السياسي لشقِّ وحدة منظّمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني، أو بهدف وضعِ موطئ قدم في القضية الفلسطينية، واستخدامها كورقة لتعزيز شرعية هذه الأنظمة في دولها وعلى الصعيد القومي، وتعزيز دورها الإقليمي. ونذكر في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في مرحلة صعود الثورة الفلسطينية، كيف دعمت بعض الأنظمة، وأسَّست فصائل خاصّة بها وتتبع لها في الساحة الفلسطينية، وكيف دعم النظام في العراق في سنوات السبعينيات انشقاق جماعة صبري البنا "أبو نضال" عن حركة "فتح"، وهي مجموعة تحوَّلت مع الزمن إلى أداة تستخدمها أجهزة مخابرات عربية وغير عربية لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات في الساحة الوطنية الفلسطينية، أو القيام بعمليات إرهابية في العالم خدمةً لهذا الجهاز أو ذاك.

كما لا يفوتنا دعم النظامَين العراقي والليبي لجبهة الرفض في الفترة ذاتها، وهي الجبهة التي مثَّلت حالة انشقاق في منظمة التحرير. أمَّا بعد حرب 1982 واجتياح (إسرائيل) للبنان، فما زلنا نذكر الانشقاق الكبير في "فتح" والمنظمة الذي دعمه وسانده بالمال والسلاح النظامان السوري والليبي، وهو الانشقاق الذي كان من نتيجته إبعاد قوات الثورة الفلسطينية نهائيًّا عن دول الطوق.

في تلك المرحلة، وبالرغم ممَّا ألحقه المال السياسي من دمار بالثورة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، إلَّا أنَّه كان بالغالب يتم في إطار تنافس الأنظمة العربية التي كانت تُقدِّم نفسها على أنَّها أنظمة قومية، فهي كانت تتنافس على الإمساك بالورقة الفلسطينية واستخدامها في الصراعات الثنائية، أو من أجل إثبات أنَّها الأكثر قومية في الساحة العربية.

أمَّا في المرحلة الراهنة، فيأخذ المال السياسي وكيفية استخدامه وأهدافه بُعدًا أكثر خطورة، بل يصل استخدامه المريب إلى درجة أنَّه يأتي في سياق مخطَّطات لتصفية القضية الفلسطينية. فالمال السياسي الذي يصل بعض الفلسطينيين توظِّفه (إسرائيل) لخدمتها وخدمة أصحابه، وبالتالي للرضا الإسرائيلي – الأميركي عنهم وعن أنظمتهم.

السؤال هنا: لماذا يتجاوب بعض الفلسطينيين مع إغراء المال السياسي رغم معرفتهم التامّة بأهدافه المريبة، وبالرغم من أنَّه أصبح في الأشهر الأخيرة يصلهم عبر الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية؟! والسؤال لهؤلاء، والمقصود هنا بالتحديد "حماس"، هل تقوم (إسرائيل) بكلِّ ذلك خدمة للمصالح الفلسطينية أم لمصالحها ومخطّطها لتصفية القضية الفلسطينية؟

الحقيقة المؤلمة، أنَّ "حماس" التي تتبع الجماعة الإخوانية الذين كانوا تاريخيًّا الأداة المفضَّلة لدى المخابرات المركزية الأميركية في قمع التطلُّعات التحرُّرية للشعوب العربية والإسلامية وبالتحديد التطلُّعات الوحدوية للأمة العربية، "حماس" هذه لماذا نستغرب قبولها وتنسيقها ومدَّ يدها للعدو الصهيوني إذا كان في ذلك خدمة للمشروع الإخواني وبقاء الجماعة ودورها، وبقائها الأداة المعتمَدة من قبل الولايات المتحدة والصهيونية العالمية؟!

لقد مدَّت القيادة الفلسطينية يدها مرارًا، بل طوال الوقت لحماس من أجل إنهاء الانقسام ومنع أي محاولة لفصل قطاع غزة عن الضفة، إلّا أنَّ "حماس" اختارت، وفي كل مرّة، أن تمدَّ يدها لأعداء الشعب الفلسطيني أو لإغراء المال السياسي وتقوم في الوقت نفسه بزرع الوهم في وعي الناس بأنَّها حركة مقاومة، هل هناك مقاومة تأخذ رواتب عناصرها من العدو أو عبره؟!!

لقد كلَّف المال السياسي تاريخيًّا وراهنًا الشعب الفلسطيني وقضيته الكثير، فقد كلَّفنا دمًا وجهدًا، وكلَّفنا زمنًا كان من المفترض أن يُكرَّس للصراع الأساس مع العدو الأساس (إسرائيل) والصهيونية، بدل أن نستغرقه في انشقاقاتنا الداخلية المدعومة بهذا المال السياسي.