بقلم: خالد غنام أبو عدنان
لماذا أراكِ في كلَّ شيءْ كأني أراكِ في كلَّ البشرّْ * إذا كنتُ أهربُ منك إليكِ فقولي بربَّك أينَ المفرّ؟. غريب أن تسافر إلى الغرب لتبحث عن شرقيتك وكيف لك أن تتأكد أنك شرقي رغم أنهم هم يقولون أنك غربي الروح والجسد! كليوبترا ليست مصرية ولا أنتوني رومانياً من الناحية العرقية ولا حتى الفلسفية، عفواً لكل من يعشق رومانسية مارك أنتوني وسحر كيلوبترا.
فيلوباتير.. فاطمة سلين.. مفطومة تريفينا.. فطيمة أوكتافيا.. تفطيمة فولفيا.. رضعت من تين أرينا.. وثدي أفروديت.. هي كيلوبترا السابعة من سلالة إغريقية حكمت مصر، بعدما احتلها الإسكندر المقدوني وأسر الحامية الفارسية كلها، أعلنه الكهنة فرعون مصر الجديد، والحقيقة أن آخر فرعون حكم مصر كان عنخ كا إن رع بساميتك الثالث ولم يحكم مصر بعد ذلك، أي من أبنائها حتى انقلاب الزعيم جمال عبد الناصر!
ففي مسرحية يوليوس قيصر وكيلوبترا لجورج برنارد شو، مشهد خيالي للإله رع يخاطب الجمهور: صمتاً .. صمتاً .. اسمعوا أيها الأقزام الغريبة .. أعيروني أذناً صاغية، واعلموا أني رع، أعرف أنكم لا تستطيعون الركوع أو السجود لأنكم محشورون في صفوف تقيد حركتكم، وأنا لا أطلب منكم أن تعبدوني .. ولكني أمركم بالسكوت فقد جئت لأعود بكم إلى أكثر من ألفي سنة إلى الوراء، أيام كان الناس يعبدونني كانت هناك روما القديمة، كانت فقيرة وصغيرة .. فنهبوا البلاد الأخرى وضموها إليهم حتى تكونت روما الكبيرة.. مترامية الأطراف، والآن هل تريدون المزيد أم تفضلون النوم بينما يتكلم إله مثلي!
ولا نعرف ماذا يعني فراعنة بلا فرعون ولا أن يكون فرعون ليس مصريا لكنه إله مصر، ثم أنه يأخذ خير مصر إلى بلاد أخرى وأكثر من هذا يتعفف من العيش على الطريقة المصرية، لكنه فرعون بحلة جديدة، لقد حرر قميز الفارسي التاريخ القديم من الفراعنة ومسح تقاليد دينية عريقة لكنه لم يفرض أي دين على مصر سوى أن يكونوا عبيدا لقورش يدفعون له الأموال.
إلا أن الإسكندر المقدوني أراد أكثر من مجرد خيرات مصر بل أنه عمل جاهداً لأن تتحوَل مصر، لتصبح جزءا من بلاد الإغريق للأبد، فأرسل بطليموس ليبني الإسكندرية، في نقلة نوعية لتاريخ مصر المرتبط بنهر النيل ومدن النهر، ها هي مصر تتحوَل إلى تابعة للغرب وعاصمتها بحرية وحكامها غزاة، يأكلون السمك البحري، ينجبون بلا زواج، ويعبدون ألف آلهة ثم يقتلون آلهتهم ويشترون آلهة جديدة، يقولون أنهم من أثينا ثم تصبح بلادنا ملكهم، بل أنهم مصريون ونحن أفارقة! وهم سلالة الآلهة.
تهكم شكسبير لذلك على لسان إيراس: يا آلهتي الحبيبة، اسمعي دعاء الشعب. فكما أن القلب ينفطر حين نرى رجلاً وسيماً زوجته داعرة، فهو كذلك يتمزق حين نرى وغداً دميماً لا تخونه زوجته. فدعائي إليك إذن يا إيزيس الحبيبة أن تضعي كل شيء في نصابه فترزقيه بما يستحق.
بطليموس لم يعد اسما لبشر بل هو لقب لمن يحكم مصر من اليونانيين، فهو بديل لكلمة فرعون فرضت على الفكر التاريخي المصري، بل أن الكثير من المصريين يعتبر البطالمة أو البطالسة مصريين وهم من حررها من الفرس وزينها لتصبح بلاد شهوة الشهية في العيون الغربية، بلاد السحر المشعوذ والنهر الفائض والخصر الناحل، فلم تعد مصر جارية شرقية في حريم قورش الفارسي، بل أنها تحوّلت لإحدى عاهرات الغرب المقدسات!
البطالمة حولوا اسم مصر القديم إلى "إيجيبوس" والتي تعني الأرض المغمورة بالفيضان أو سكان أرض رب الفيضان. أما اسمها القديم فهو نسبة إلى مصرايم بن حام بن نوح، وهو يختلف عن اسمها بكتب الإغريق "بجر" فهذا الاسم تحريف لكلمة أمجر وتعني البلد أو المعمورة، فيقال أمجر الفيوم أي مدينة الفيوم. أما "كيمي" فهو اسمها عند الكنعانيين وتعني الأرض السوداء لخصوبة أرضها والاسم قادم من توقيع الفراعنة لمراسلاتهم بفرعون هوكيميت.
لقد انتهت مصر الفرعونية للأبد وأصبحت إيجبت البطالمة الإغريق ولكنها على أرض مصر! وحروف كلمة "ولكن" حملت معاني كثيرة عند شكسبير منها ما نقله على لسان كليوبطره : ولكن لست أحب أن أسمع ولكن، فهي تفسد ما تقدم من بُشرى، سحقاً لهذه الكلمة ولكن. إنها تشبه السجّان الذي يفتح الأبواب ليفرج عن مجرم أثيم، رجوتك يا صديقي أن تفرغ كل ما في جعبتك من أنباء، السعيد منها والمشؤوم على حد سواء.
قضت عائلة كيلوبترا فيلوباتير حياتها في مصر لأكثر من 100 سنة قبل ولادتها بداية من عام 69 ق.م، وهي آخر حكام السلالة المقدونية. أبوها بطليموس الثاني عشر وأمها تريفينا كيلوبترا الخامسة أو وصيفتها الحبشية! (الإمبراطور الروماني أغسطس هو من أشاع أن أم كيلوبترا ليست بطلمية بل أنها إفريقية واسمها سيبال) بطليموس الأول هو مؤسس الإسكندرية كعاصمة لمصر، وهي أول عاصمة لمصر لا تقع على نهر النيل! إلا أن البطالمة أجبروا المصريين على تسميتهم بالفراعنة، وكانوا يضعون الرسومات التي تؤكد أنهم فراعنة أي أبناء آلهة رغم أنهم غير متدينين وهذا جعل الثورات لا تتوقف في مصر. فلم يشفع لهم أنهم أتقنوا لغتهم وتكيفوا مع عاداتهم وعبدو آلهتهم، حتى أن أسماء ملوكهم وضعت بالخراطيش المقدسة.
ففي شعر أحمد شوقي يسجل أن كيلوبترا كانت تطلب من الكاهن البركة دليل على أنها لم تكن تمثل إيزيس فهي ليست بنت الآلهة. فقال شوقي على لسان الملكة: كاهنَ المُلكَ سلامٌ لا عَدِمْنا بركاتِكْ * صلِّ من أجلي ولا تنسَ صغاري في صلاتك. وأيضاً هذا مقام صلاتي وهيكلي للضراعة * ولي خطايا كثيرة لا تبرح البال ساعة * فادخل وصلِّ لأجلي فمنك تُرجى الشَّفاعة.
بعد موت بطليموس الثاني عشر ترك العرش إلى كيلوبترا السابعة عمرها 18 عاماً مناصفة مع أخيها بطليموس الثالث عشر الذي كان عمره 10 سنوات. كيلوبترا يعني البنت التي تمجد أباها وهو لقب لملكات البطالمة، وكيلوبترا تعني الفاطمة المفطومة، فهي لا ترضع من أمها إلا لمدة سبعة أيام ولا ترضع بناتها إلا سبعة أيام، وخلال السبعة أيام هذه يتم وضع قطرات من لبن التين في فم المولودة حتى تمتلك سمو الآلهة السماوية ضمن المعتقد الإغريقي الذي يؤمن أن رَمّْينا هو إله الرضاعة الرومانية الذي يحمي المرضعة ويقطّر اللبن المقدس في ثدييها، وهو لبن ديفا السماوي الذي يسكن فاكهة التين دون إخصاب ذكوري ولا اتصال جنسي، هذا اللبن المقدس هو ما يزرع العفة والطهارة بالنفس البشرية. إلا أن البطالمة لم يعتبروا أي كيلوبترا عفيفة بل أنها أقرب إلى أفروديت تلك إله الأنثوية المتمردة على كل القوانين والرافضة لفكرة العفة والطهارة، وأيضا الرافضة لفكرة أن البنت لابد أن تكون مطيعة لينة للرجل، حتى لو كان أخاها أو أباها!
قالوا: إن المؤامرات حيكت ضد كيلوبترا فهربت إلى سوريا وعاشت هناك عشرة سنوات حتى استطاعت أن تبني جيشها، إلا أن الدلائل تؤكد أن وصية أبيها تعطي أخاها الحق بالحكم وهي تريد أن تحكم فاستعانت بقيصر الرومان ليساعدها على الحكم، ساعدها يوليوس لأنه كان بحاجة للمال وهو سر كيلوبترا الدائم، فالمال دائماً سلاحها القوي الذي تسحب به أقوى الرجال، أنجبت بطليموس الخامس عشر "قيصرون" من يوليوس الذي أعلنها ملكة على مصر مع أخيها الأصغر بطليموس الرابع عشر.
وبهذا قال أحمد شوقي على لسان كيلوبترا: مُرْ بما شئت قيصر وأشر كيف تأمر * لك قصري وما حوى القصر كل مسخر * ليس شيء وإن غلا عن حبيب يؤجر * لتكونن ليلة آخر الدهر تذكر * لا تبالي إذا صفت بعدها ما يكدر * تحلم الحلم لست تدري بماذا يفسر؟. بل أن شكسبير يذهب إلى أكثر من ذلك فكتب على لسان كليوبطره: إن قيصر إله. هو يعرف الحق الذي لا هراء فيه. فأنا لم أفرط في شرفي ولكنني غلبت عليه قوة واقتداراً.
يوليوس سيزار قيصر حوّل روما من جمهورية إلى إمبراطورية وهو فاتح الفتوحات الكبرى في فرنسا وإسبانيا وشمال أفريقيا. يوليوس لم يتزوج أي من محظياته ولم يطلب العرش لأحد من أبنائه، يوليوس صنع روما الكبرى، وداخل روما قيادات العسكر وأباطرة التجارة وكبار الكهنة أسس لهم مجلس روما وسمّى كل منهم سيناتور، خاف العديد من القيادات على مناصبهم القديمة بعدما تحوّلوا لمجرد سيناتورز، تجمهروا وقرر أربعون منهم ضرورة الخلاص من يوليوس وحل مجلس روما، دخلوا قصره وقتلوه، لقد فتح لهم باب الخلوة بروتوس، ذلك الوزير المدلل ليوليوس، لقد أغدق عليه بالعطايا حتى قالت روما أن بروتوس إمبراطور ثاني لروما، عندما طعن بروتوس لم يصدق يوليوس ما يحدث وصاح جملته الشهيرة: خيانة أنتم خونة، حتى أنت يا بروتوس. وعندما سألوا بروتوس بعد ذلك لماذا قتلت من فضّلك على الآخرين؟ أجاب بروتوس: لقد قتلت القيصر ليس لقلة حبي له، بل لأني أحب روما أكثر.
كان أنطونيو يتوقع أنه من سيحكم روما فهو السيناتور الأكثر شهرة في البلاد وقيادي محظي بالمناصب عند يوليوس، لكن قراءة الوصية وحدها من يحدد قيصر روما الجديد إنه جايوس أكتافيوس. اقتسموا الإمبراطورية أنطونيو شرقها وأكتافيوس غربها حتى يركع الجميع لهما. نعم أكتافيوس ابن روما وعرّاب خطة قتل يوليوس، أكتافيوس محبوب الكهنة وشريك التجار وقائد الفرسان، لقد أراد يوليوس أن تبقى روما من بعده عاصمة الإمبراطورية فاختار جايوس أكتافيوس ابن روما من سلالة عاشت في روما خمسة قرون.
أما مارك أنتوني اسمه باليوناني ماركوس أنطونيوس وبالفينيقي مرقص أنطلياس وبالقبطي مرقس أنطونيو ولد في روما لعائلة يونانية شريفة ولا يمكن أن يعد أصل اسم عائلة أنطونيو أو أنتوني إيطالياً بل حتى أن الاسم لم يكن مشهوراً في غرب أوروبا إلا بعد انتشار المسيحية التي كان لها الفضل في نشر العديد من الأسماء الشرقية، حاول العديد من المؤرخين الترويج لفكرة عراقة اسم أنطونيوس كعائلة عريقة، لكن لم يثبت أن أي من قيادات الإسكندر المقدوني كان من هذه العائلة، وكذلك بتاريخ روما لم يثبت أن هناك أي قيادي كان يحمل اسم عائلة أنطونيوس أو أنتوني قبل مارك أنتوني!
قالها كاهن روما الأعظم: نريد عدل وسماحة أكتافيوس في روما وغرب الإمبراطورية، أما الشرق فلابد أن يتبعنا رغماً عنه وسوف نرسل أنطونيو القاسي، فلا يوجد أقسى من شرقي على الشرقيين خصوصاً إذا كان مولودا في بلاد الغرب! لهذا كان إبعاد أنطونيو عن روما ودفعه نحو الشرق، فهو الترويج أن الشرق شهوة الشيطان.. الشعوذة والسحر. أما أكتافيوس فلم يقبل أن يخرج أنطونيو من روما قبل أن يتزوج أوكتافيا أخته، وفي المعبد قال أنطونيوس: هيا بنا، هيا، نحن ملتقيان مفترقان: فأنتِ المقيمة هنا راحلة بالقلب معي، وأنا الراحل عنك مقيم بالشوق إلى جوارك، هيا ننصرف. فقالت أكتافيا: أحبك أنتوني!
هبط أنتوني إلى الاسكندرية لقمع ثورة هيرماكس آخر سليل للدم الفرعوني الذي سجنته كيلوبترا أكثر من مرة ولم تقتله خوفاً من غضب الشعب. هرب من السجن وبدأ يكيد المكائد لهما، كان الشعب يساعده وقد حرقته كيلوبترا أكثر من مرة، فهي من قالت: هيرماكس إله يرفض أن يموت أو أنه يهوى أن يتهاوى شعبه افتداء له. ويُقال أنه من أخبر أنطونيو أن كيلوبترا انتحرت. خوفها من ثورات المصريين كان دافعا لتعلقها بالرومان. فسجل شكسبير استغراب أنتوني من تعامل كيلوبترا مع هيرماكس: إن لسانها لا يطيع قلبها وقلبها لا يلهم لسانها، إنها كريشة البجعة تطفو على الموج المتلاطم ولا تعرف أين تتجه؟ سجّل كتّاب كثيرون رومانسية العلاقة بين أنتوني وفيلوباتير، لعلها غراميات روما التي تنسى من يخدمها من الشرقين، أنتوني تحوّل لمجرد سيف يقتل الشرقيين حتى ترضى روما وكيلوبترا لم يبقَ لها حب في قلوب المصريين، لقد أصبحا ريشتان لا تسقطان بنار الأرض ولا يستطيعان أن يحلقا فوق الريح، إنه توازن الهروب في الزمن المسروق، محاولة يائسة لتأخير الهزيمة دون القدرة على تغيير شكلها أو وقتها، إنه القتال حتى الرمق الأخير في انتحار الانتصار على عتبات المستحيل.
كليوبترا السابعة فيلوباتير تتلمذت بالفلسفة الإغريقية وتأثرت كثيراً بأفروديت تلك إله الأنثوية المتمردة، فقد بدأ أبوها بالتمييز بينها وبين إخوانها الصبيان رغم أنها بكريته، لقد فرضت نفسها على كل من حولها حتى أبيها لم يجرؤ على إهمالها، هي صاحبة الحكمة "التغريدة الكسلانة"، ويا لها من نظرية فرضت نفسها على كل من تعامل معها، إنها تقف لتتكلم والكل يتهيأ ليسمعها لكنها لا تنطق سريعاُ، بل أنها تشهق وتزفر أنفاسها العميقة ثلاث مرات وهي تسير بشكل دائري وأصابع يديها متلامستان لكن ذراعيها منفرجان وكتفها مشدود للوراء، ثم ترفع رأسها للأعلى وتنطق كلماتها من أعماق صدرها، فتخرج حروفها العربية بنغمات الأسطورة الإغريقية. إنها أذكى البطالمة الذين حكموا مصر، في عهدها تحوّلت الإسكندرية إلى أهم مدينة بالعالم، فهي قبلة التجار ومدرسة الباحثين وزهر الشعراء، في عهدها كان الفائض الغذائي المصري هو سلاحها في كسب الحلفاء الأقوياء، كانت غنية لدرجة أن أعداءها كانوا يبيعون أوطانهم من أجل مالها، أما هي فلم تعشق رجلاً طيلة حياتها، فهي كيلوبترا حقيقية تبحث عن مجد لها يخلدها كملكة، أما أنتوني فلم يكن عشيقها بل شريكها بمؤامرة لم تنجح.
ومن جهة أخرى كانت كليوبترا تجسد أفروديت آلهة الإخصاب الحيواني وتقديس الزهور، فهي مثل الزهور تستقبل لقاح كل الزهور مثل العاشقة الشهية الملتهبة لا الزوجة الحبيبة فهي امتداد لأورانيا إله العاهرات وتفريغ الشهوة حتى أن أفلاطون وصف أفروديت بربة الحب السوقي، فهي أنجبت بلا زواج وكانت تعشق أكثر من ذكر في نفس الوقت وأنها مارست الجنس الجماعي السماوي والأرضي، فهي قاتلة الغيرة ومن روّج لفكرة الحبيب الديوث. نعم كانت ترفض أن تكون لمارك أنتوني وحده، فكما أن له زوجتين في روما والكثير من المحظيات، كانت تقبّل فرسانها أمامه وترفض أن يغار عليها فهي مجرد صديقة شريكة لا تابعة خصوصية له. فهي ترفض أن تعلق نشوة الشهوة على لذة النزوة، فهي من قالت: نسقط في بئر النزوة لكنها لا تروي شهوتنا وإنها طعم آخر طعم الغريب المحرم. أما الشهوة فهي غريزة فطرية بحاجة إلى إشباع بشكل مستمر، فقد نملك أن نكبت شهواتنا لكننا لا نقدر إلا على إسكات نزواتنا فهي قوية قادرة على تدميرنا لأنها لا تروي الشهوة ولا تشبع الرغبة.
فهي ترجمة للأسطورة الإغريقية التي تقول: أفروديت لمحت الفتى أدونيس فهامت بحبه وأهملت حياتها كآلهة، فمسختهما الآلهة إلى لبؤة وأسد، لكن الخنزير البري يقتل الأسد ليسحب روح أدونيس منه، تطير اللبؤة فوقه أوزتين وتنثر دم أدونيس على الزهر الأزلي الأبيض وتحوله إلى زهر لونه أحمر ضعيف الهيئة ولا يعيش أكثر من شهر إنه شقائق النعمان التي تموت سريعاً وتهب روحها لأدونيس لتجدد خلوده الأزلي، فهو شهوة أفروديت الساكنة في عيون النساء اللاتي لا تشبعن من اللهو بنزوات عابرة ويحلمن بشهوة تشبع، لكن شهوتهن لا تشبع إلا بهلاك سافو وتحوله إلى أثينا العفيفة تلك الآلهة العذرية التي تغني وترقص وترفض مجرد قبلة فطهارتها رمز خلودها في قتل غريزة العنف، فالجنس عند سافو نوع من الاعتداء على الآخر.
يتوقع البعض أن كيلوبترا وهبت نفسها ليوليوس القيصر لأنها خسرت معركة عسكرية لذا فلابد أن تُقَبِّلْ قَدَمْ قيصر روما، لكن الحقيقة أن التقاليد الإغريقية تعطي الأم قوة أكثر من الأب، فهي قبلت أن تصبح تحت يوليوس لأن ابنها قيصرون سيكون ولي عهد القيصر، إنها العودة إلى الوراء بنقل الحكم من الدم الروماني إلى الدم الإغريقي، هذه المعادلة التي أرعبت روما وكانت السبب الحقيقي في مقتل يوليوس قيصر. عندما جاء مارك أنتوني إلى الإسكندرية بدا طاووساً يرقص رقصة الموت، فهو تارة رومانياً يريد أن يركع له الجميع ويبحث عن قيصرون ليقتله، وتارة إغريقيا يبحث عن عاطفة البطالمة بحربه ضد أكتافيوس، هو العنيف المقاتل صاحب الصولات البحرية والجولات الصحراوية، هو النهم الشغوف شهواته لا تشبع من النزوات، لم يعرف الإسكندرية إلا عبر كيلوبترا، فلم يعرف تجارها ولا فرسانها ولا حتى نسائها، فهو من قال: أكتافيوس يحكم روما لكن الإسكندرية تعبد كيلوبترا.
أنجبت كيلوبترا من أنطونيو: السكندر هيليوس وكيلوبترا سيلين خلال علاقة استمرت لعشر سنوات، هي ليست زواجاً بل ارتباطا أهلك مارك أنتوني وجعله لا ير في شرق بلاد الروم إلا الإسكندرية، حاول مراراً أن يستقل عن كيلوبترا، لكنها كانت دائماً أقوى منه، فهي الدبلوماسية الشهيرة فتحت علاقات مميزة مع الفرس والكلدانيين وكذلك الفينقيين واليهود والأموريين والأحباش والنوبة وليبيين وقرطاجة، كانت ترسل السفراء وتقيم العلاقات ولم يشعر أحداً أن مصر دولة مستعمرة تابعة لروما! كما أنها امتلكت جهازمخابرات قويا جداً وكانت دائماً تفاجئ مارك أنتوني أنها تعرف ما لا يعرفه. وبهذا كتب شكسبير على لسان كيلوبطره: ابحث عن مكانه، وعمن معه، وعما يفعل، لا تقل أني أوفدتك. فإن وجدته حزيناً فقل أني أرقص، وإن وجدته مرحاً فقل أني مرضت فجأة، هيا عجّل وعدْ دون إبطاء. وكذلك كيلوبطره: ما أكذب حبك، أين القواوير المقدسة التي كان ينبغي أن تملأها بدموع الأحزان؟ هاأنذا أرى الآن في موت فولفيا كيف ستستقبل موتي؟
فولفيا هي الزوجة الوحيدة لمارك أنتوني أما أوكتافيا وكيلوبترا فهما ارتباط سياسي يجمع بين الولاء والشراكة السياسية، إن الدارس لفكرة الزوجة الواحدة في القانون الروماني يقف حائراً عند قصة مارك أنتوني وكأنه استثناء لكل ما قبله ولما بعده، أكتافيوس الذي قتل يوليوس أرسل مارك أنتوني ليقتل قيصرون لا هيرماكس، لكن كيلوبترا حرفت البوصلة فسقطت روما في فخ الشرق.
لعبة الشرق هي إبداع كيلوبترا التي مزجت الثقافات وخلطت الأديان لتبني أسطورة فريدة من نوعها اسمها سحر الشرق في عاصمته المهيبة إسكندرية كيلوبترا، حيث اختلط كل الشرق، شرق أوروبا أثينا وأولمبيا ومقدونيا وبلاد الفرس والسند والهند وبلاد الرافدين وأرض كنعان والفينيقيين والأموريين والأحباش وبلاد النوبة واليمن وليبيا وقرطاجة كله هذا اختلط ليصنع أسطورة شرقية جوهرها ملكة الملوك كيلوبترا السابعة.
إن الدراس لتاريخ الرقص الشرقي سيصل إلى أن كليوبترا من دمج الرقصات البابلية والفينيقية والمصرية ليخرج مفهوم الرقص من عبادة روحانية إلى مجرد متعة طربية وتسويق للمفاتن وتسعير للشهوات، رقص اليدين الفينيقي والصدر البابلي والخصر المصري كان صلاة كلها دموع خاشعة تحول إلى آهات وضحكات لعوبة! فانتشر هذا اللهو في بلاد الشرق واخترق حواجز الأديان واللغات. وبمصاحبة هذا الرقص كان هناك فن التجميل الإسكندري الخاص بكيلوبترا وهو أيضاً خليط من ثقافات متعددة، فالاستحمام بحليب حمار يافع مخلوط بالعسل وزيت اللوز للحصول على النعومة المتوهجة على طريقة أريحا الكنعانية ، ومن صور الفينيقية هناك مسحوق لب العنب مخلوط بالعسل لترطيب الوجه، إلى فرك الجسد بالملح البحري لإزالة الجلد الميت والحصول على بريق نضر على طريقة غزة الكنعانية، وشطف الوجه بماء الورد الجوري مرتين باليوم كما تفعل بنات دمشق، أو شطف الوجه كل صباح بخل التفاح المخفف بالماء مع شرب فنجان خل العنب كما في بلاد النوبة، دهن الوجه بالعسل وإبقاءه لمدة ساعة بهدف سحب التجاعيد كما هو في بلاد الفيوم، كما أن هناك خلطة بابلية لنعومة الشعر عبارة عن خليط العسل وزيت الزيتون وزيت الخروع، وهناك سر من بلاد الحبشة وهو عبارة عن تسخين شمع العسل مع زيت اللوز وزيت الصبّار لإزالة السخونة من الجسد.
وأكثر ما يميز جمال كيلوبترا هو أحمر الشفاه هو عبارة عن خليط من الأصباغ الوردية والدهون الحيوانية، ويُقال أنها كانت مفتونة بلون الدم، وتستخدم أحمر الشفاه المصنوع من دم الخفافيش و وطواط أريحا، تبعاً لأسطورة الجارية العذراء عند الكنعانيين التي تروي أن الأميرات إذا وقعن بالأسر يقمن بتلوين شفاههن بسم أحمر ويضعن هذا السم في أرحامهن أيضاً فإذا ما تعرضن لاغتصاب فيمتن ويقتلن من يعتدي على شرفهن، إلا أنه في أثينا أُمِرَت الداعرات أن يضعن أحمر الشفاه لتميزهن عن البنات الشريفات، وفي مصر الفرعونية كان تلوين الشفاه يعتبر طقسا دينيا ليس له معاني إغراء.
أما طعام كيلوبترا فهو مكون من زيت الزيتون البكر والأجبان الخفيفة والخضروات والبقوليات والحبوب والأعشاب العطرية، كانت كيلوبترا نباتية ضمن قواعد كونها ملكة فرعونية نادراً ما تأكل اللحم الأحمر ولا الأسماك البحرية فهي لا تأكل إلا أسماك النيل! هذا إذا افترضنا أن كيلوبترا مصرية لكنها شرقية تجمع كل أذواق الشرق في أطباق ملونة، نعم هي أكثر الملكات عشقاً للخضروات الطازجة المعطرة بالأعشاب والزيوت أو ما نسميه بالعصر الحديث السلطات! ففي نظرة لما ابتدعته في أريحا من أكلة ارتبطت باسمها وهي أصلا أكلة يهودية ابتكرها اليهود احتفالا بمولد سليمان عليه سلام وكانت عبارة عن دجاج مطبوخ بالأرز والقرنبيط الأصفر والبصل البني أو ما نسميه بمقلوبة الزهرة بالعصر الحالي وتظهر بالرسومات أطباق مخللات الخيار والزيتون ولبن رائب بالقرب من السليمانية أو مقلوبة الزهرة، جاءت كيلوبترا واستبدلت القرنبيط بالباذنجان وأكلتها مع سلطة الخيار باللبن والنعناع، وهذه الأكلة اسمها الباذنجانية وكانت محرمة عند اليهود لكنها انتشرت في عموم الشرق على أنها إحدى ابتكارات كيلوبترا، وكذلك محشي الباذنجان ومحشي القرع وحمام محشي بالخضروات الموسمية وحساء الفول بالشعير وكعكة التين بالمكسرات والمغطاة بالعسل، ففي علم التراث تعتبر كيلوبترا مجددة مبتكرة ومنفتحة على شرقها لأبعد الحدود دون أن نذكر أنها أكلت أطعمة رومانية، بل أنها تمسكت بأسرار البداوة الشرقية وخصوصاً الخل الذي كانت تعتبره سر الشباب الدائم وبعض أنواعه يقدر ثمنه بوزنه من الفضة. ورفضت حمية فيثاغورس وهي المفهوم الإغريقي لأكل الفراعنة فقد تم استبدال السمك النهري بالبحري وأن أكل لحم الخنزير مرة بالأسبوع والدواجن المطبوخة بالماء، فقد كتب أمبيدوكليس أن إدخال الحبوب والخضروات في الأكل الأوروبي لم يكن معروفاً بشكل واسع، وأن حمية فيثاغورس تعني استبدال اللحم بالبقوليات النباتية. فعلى سبيل المثال الفول بفلقتيه اللتين تشبهان الخصيتين هو رمز الخصوبة عند الفراعنة لكنه رمز الخصي والتخنيث عند الإغريق، كما أن القاعدة الفرعونية تقول أن غذاء الآلهة أن تجمع من الحيوانات الحليب والبيض دون أن تقتلها وأن قتل الحيوانات وأكل لحومها يزرع العنف وشهية القتل داخل الإنسان.
لكن كيلوبترا لم تأكل لحم الخنزير ولم يكن اللحم الأحمر كله ضمن قوائم الطعام المذكورة في سجلاتها ولا حتى خارج الإسكندرية، وكأن الشرق كان خاليا من الخنازير، وبهذا قال البرفسور ريتشارد ردينغ من جامعة مشتيغان الأمريكية: أن الخنزير كان من الحيوانات المستأنسة في الهلال الخصيب ما بين 5000-2000 ق.م. ثم إنها بدأت تختفي تدريجياً ونقصت نقصاً حاداً في بداية 1000 ق.م. وتم استبدالها بالدواجن، وقد يكون هناك أسباب دينية لكن الأغلب أن الدواجن سهلة النقل ولا تحتاج لكميات ماء كبيرة، فقد تحولت المنطقة إلى الطقس الجاف ولم يعد الماء متوفرا كما كان. وهي نفس الفترة التي بدأ التحول الغذائي الأوروبي نحو أكل الخنزير كبديل عن لحم الأسماك، رغم أن الخنزير كان متوفرا في أوروبا منذ 13000 ق.م. لكنه لم يكن يثير شهيتهم، وهذا يجعلنا نرى أن سلالات الخنازير المأكولة في أوروبا ليست السلالات المحلية ولا تلك المجلوبة من بلاد الصين وفارس في حقبة الانتصارات المقدونية بل هي بالغالب خنازير الهلال الخصيب.
وهذا ما لفت نظر شكسبير عندما كتب بمسرحيته: طبيب كيلوبترا فيلويا استغرب وجود ثمانية خنازير برية في مراحل التحميص والتحميص داخل مطبخ القصر. نعم بقدر ما كانت كيلوبترا متعلقة بالشرق كان مارك أنتوني متعلقا بروما، وفي روما لابد أن يأكل الفرسان اللحم الأحمر لأنه يجعلهم عنيفين شرسين. فها هو شكسبير يقول على لسان الجندي: لا تحارب في البحر أيها الإمبراطور العظيم، لا تثق بهذه السفن البالية، أو لم تعد تثق بهذا الحسام حسامي وبهذه الجراح التي أصبتها في سبيلك؟ دع المصريين والفينيقيين يلهون بصيد البط في الماء، أما نحن فقد تعودّنا أن نقهر العدا وأقدامنا على الأرض ثابتة نقاتل رجلاً لرجل.
لم تسع كيلوبترا لمعركة أكتيوم بين أكتافيوس وأنطونيو فهي الدبلوماسية القادرة على الاستفادة من ضعف الاثنين لماذا تبحث عن نصر يهزمها أو هزيمه تنصر أعداءها عليها، أكتافيوس عندما خرج من روما خرج كسيراً يبحث عن انتصار يجعله يعزز مكانته المهزوزة في روما، ومارك أنتوني ذلك العسكري الذي لا يعرف إلا أن يقاتل، رفض أن يكون تابعا لكيلوبترا ولا لأكتافيوس أرادها حرباً يهزم فيها كل منافسيه، قالت له كيلوبترا: انصر الشرق تنتصر وإن هزموك سيأسرون كل الشرق! حاذر أنت تغامر بنصف العالم مقابل أن تثبت أن الغرب لك والغرب ليس لأحد إنه أرض القراصنة! وفقال أحمد شوقي على لسان أنطونيو: كليوبترا دعينا من تجنَّيك كليوبترا * أتبكين على الصبر وقوْم حُرموا الصَّبرا؟ * وبي من صبرك الواهي جراح الأمس لم تبرا * لقد مَنَّيْتُ أسطولي لدى أسطولك النصرا * حليف كان يرجو أن سأشتد به أزرا * فَعَبَّا تحت أعلامك حتى زحما البحرا * وقد كانا الجناحين وقد كنت النسرا * وأجرَى الفُلك أكتافيو فأجريتُ كما أجرى * صّفّفْناها وأرسلنا بها تقتحم الجمرا * كلانا مارّس الحربَ وعانى الكر والفرَّا.
تقول الأسطورة الرومانية أنه بالقرب من معبد تابوزيريس ماجنا دفنت كيلوبترا وأنطونيو في قبر ملكي مهيب وهو أيضا قبر قيصرون الذي قتله الرومان حتى لا يطالب بعرش روما! إنها مقبرة الشرق المخفية التي لا نعرف أين هي, قد تكون بأعماق البحر أو أنها سرقت من الجغرافيا، لكنها محفورة في التاريخ، إن الشرق يكره أنتوني لأنه لم يرضَ أن يكون شرقياً فسقط الشرق في سجن الغرب، إلا أن الشرق الحبيس صبغ الغرب بألوان الشرق فغيّر أكله ولبسه بل غيّر نظام حكمه ومعتقده الديني، ويا ليت أنتوني يستيقظ ليرى كم هو الغرب شرقياً ويعشق كل ما هو شرقي. التاريخ مازال يمجد كيلوبترا لكنه نسي كل شيء عن مارك أنتوني، فهو لم يكن إلا جزءا من أسطورة ملكة شرقية صنعت وحدة مكانية زمانية في شرق كان يقاتل بعضه البعض من أجل إرضاء الغرب، كيلوبترا لم توحد رقصنا وأكلنا بل إن بواخرها العسكرية كانت شرقية من الفارس وفينيقيا والإسكندرية والنوبة، مليكة الشرق التي صنعت أول وحدة مجتمعية دون فتوحات عسكرية ولا قوة الرسالات الدينية، إنها دبلوماسية التوافق المصلحي والتعاون النفعي، قتلها أنتوني آه يا أنتوني كم يكرهك الشرق.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها