بقلم: خالد غنام أبو عدنان
في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى كُتِب الكثير الكثير، أكثر من 70 كتابًا في أستراليا وحدها، والآلاف من الأوراق البحثية والمقالات التاريخية، إضافةً إلى المئات من الندوات والحلقات الدراسية والأفلام الوثائقية، لكنَّها بغالبيتها العظمى كانت مجحِفةً بالحقِّ الفلسطيني، ومناصِرةً للصهيونية ومشروعها الإمبريالي في المنطقة العربية، إلّا أنَّ هناك قلةً قليلةً من ذوي الضمير الحي صرخوا لا للصهيونية، لا للسكوت عن أكبر جريمة ارتكبتها بريطانيا الاستعمارية، لا لسرقة الأوطان.
ذهبت مع وفد إقليم حركة "فتح" في أستراليا، بصحبة الأخ عبدالقادر قرانوح لحضور ندوة عن الذكرى المئوية لوعد بلفور في جامعة سدني يوم 3 تشرين الثاني 2017، والتي نظَّمتها مجموعة الفعل الفلسطيني في سدني بالتعاون مع التحالف اليساري العربي الأسترالي، وكان أحد المتحدّثين هو الرفيق كولن أندرسون، والذي بدأ مداخلته بالسؤال: من يعرف المؤرخ البريطاني جفريز وكتابه الحقيقة الفلسطينية؟ فرفعت يدي، فسألني هل أنت متأكد؟ فقلت نعم، فقال: أنت أول أسترالي يقول لي إنَّه يعرف الكتاب رغم أنَّني أسأل عن معلومات عنه منذ أكثر من ثلاثين عامًا. أهمُّ ما قاله أندرسون أنَّه انتهى من أبحاثه عن وعد بلفور وجمعها كلّها في كتاب يحمل عنوان بلفور في قفص الاتهام (Balfour in the Dock: J.M.N. Jeffries & the Case for the Prosecution, and mention the publisher - Skyscraper Publications, author: Colin Andersen).
لم أكن أعرف الرفيق كولن رغم أنَّ له تاريخًا نضاليَّا طويلاً، وعندما تعارفنا أصبحنا أصدقاء تجمعنا هواية جمع الكتب النادرة ونفض الغبار عن الحقيقة الفلسطينية. كولن ذو الأصول النرويجية والنبرة الجبلية والطلّة اليسارية عاشقٌ للتاريخ وجامع لنوادره، درسَ التاريخ واشتهر كمدرس تاريخ بالجامعات والمدارس، وهو بالتأكيد يمتلك أسلوبًا خاصًّا وخاصًّا جداً. وهذا الأسلوب كان واضحاً من طريقة حديثه في الندوة، فهو يؤمن بالتفاصيل الموثَّقة، فلا يقول كلمة إلّا ويُتبِعُها بمصدرها، وأين وردت، ومتى هو اطلع عليها، وكيف تأكَّد من صحتها، هذا الأسلوب الصعب في قراءة التاريخ بعيد جداً عن الطريقة اليسارية التي تقرأ التاريخ على أُسُس طبقية، فهناك تاريخ القرار التسلّطي الحاكم وتاريخ الثورات الشعبية، وهذان النوعان من الكتب لا يمكن أن يكونا موثَّقين، بل إنَّ التاريخ فيهما يكون مجبولاً بالألم والأمل، كما أنَّ أسلوب كولن بعيد عن الكتب الدينية التي تمنح القداسة للنص ولمن قاله، فهو لا يؤمن بوجود نصٍّ مقدس بل إنَّ القداسة تكون للحدث التاريخي، أمَّا أدوات تسجيل التاريخ فتحتاج لتطوير وتدقيق.
للبحث عن معلومات إضافيةٍ عن كولن كان لابدَّ أن أسأل مَن يعرفه من كوادر الجالية الفلسطينية، وقد أكَّد لي رئيس النادي الفلسطيني الأسترالي جميل بطشون أنَّ "كولن كاتبٌ صحفيٌّ مهمٌ، بدأ الكتابة عن الحق الفلسطيني في المجلات الجامعية اليسارية، ثُمَّ كان أحد أعضاء فريق مجلة (Palestine Forum) التي أصدرتها "رابطة أصدقاء فلسطين" في عام 1974، وكانت تُحرِّرها مجموعةٌ من الأستراليين مع روّاد الصحافة العربية من أمثال جان بشارة وطوني مارون وبطرس عنداري وسمير برغشون وسعيد يحيى. كما أنَّ كولن ساعدنا في إصدار مجلة النادي الفلسطيني الأسترالي المعروفة باسم (Palestine Review) والتي أصدرناها في عام "1976". وأضاف رئيس جمعية الخريجين بشير صوالحة: "كولن أندرسون أول كاتب حُرٍّ عرفَتهُ سدني، ومع احترامي لكلِّ الكتّاب العرب الذين كتبوا عن الحق الفلسطيني، يبقى تأثير كولن أندرسون وكذلك جورج بادرسون كصحفيين شُجاعَين كتبا في عصرٍ كان الدفاع عن منظمة التحرير الفلسطينية دفاعًا عن الإرهاب كما كان يصوّره الإعلام الأسترالي، وكولن لم يكتب فقط بل ذهب إلى لبنان، وزار معسكرات الثورة، وتعرف على فلسطين أكثر من خلال المؤسسات البحثية في بيروت مثل مركز الأبحاث الفلسطينية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهو من كتب مقالات عن جريمة الجيش الإسرائيلي في سرقة أرشيف مركز الأبحاث أثناء اجتياح بيروت.
عندما طلب رئيس اتحاد عمّال فلسطين منير محاجنة من كولن أندرسون أن يُلقي كلمةً في الذكرى الثالثة عشر لاستشهاد الرئيس الفلسطيني الراحل أبو عمّار، قال لنا كولن بلغة عربية سليمة: ثورةٌ حتى النّصر! ثُمَّ تابع بالإنجليزية: (عندما سمعتها توقعت أن ينتحر كلُّ الفلسطينيين خلال أعوام قليلة، لكن شروحات "ثورة حتى النصر" تعني أن البندقية وحدها لا تكفي ولابد من ثورة شاملة. بيروت السبعينيات المليئة بالأسلحة والذخائر كما كان يصوّرها الإعلام الأسترالي، هي نفسها بيروت البحث العلمي التي تعلّمتُ منها الكثير، كلّ المدارس التاريخية والإعلامية تتعايش في بيروت بطريقة لا يمكن إلّا أن تكون في بيروت وهي ميّزة بيروت الفطرية، ففي بيروت التعدُّد الثقافي والتعايش السلمي للأديان والمذاهب السياسية لا يمكن أن يقاس بما يحاول الغرب صنعه بكذبة التعدد الثقافي لأنَّه من الداخل عنصري لأبعد الحدود. ثورة حتى النصر هي ميزة اليساري الوطني عن اليساري القومي ولن أشرح أكثر)".
أغلب النشطاء الأستراليين يتعلَّمون مفردات قليلة من اللغة العربية من خلال برنامج تعليمي مبسَّط، أمَّا أن يدرس كولن أندرسون اللغة العربية لمدة ثلاث سنوات متتالية، فهذا يعني أنَّه يريد أكثر من مجرد مجاملة العرب، إنه يبحث عن معلومات مفقودة في تاريخ فلسطين، وهو يصرُّ على أنَّ ما يعرفه المواطن الأسترالي العادي عن فلسطين لا يتجاوز ما هو مذكور عنها في التوراة والإنجيل، أمَّا قضية استعمار فلسطين فهي مبررة وهي انتصار على الأتراك، ولا تستغرب ذلك، لأنَّ النظرة الدينية العاطفية هي ما يدفع الناس العاديين لمتابعة قضية سياسية بعيدة عنهم، فعلى سبيل المثال المسلمون في شبه القارة الهندية يؤيدون الحق الفلسطيني لأن فلسطين أرض إسلامية مقدسة، لكن القلة القليلة التي تعرف حقيقة الجريمة البريطانية وأنَّ اليهود لم يكونوا في فلسطين قبل استعمارها، هذه النظرة مختلفة عن نظرة الصينيين لفلسطين فهناك ينظرون لفلسطين كإحدى حركات التحرر الوطني ويقرؤون التاريخ على أنَّ الاستعمار البريطاني الذي أوجد تايوان وهونغ كونغ ومشاكل عديدة للصين هو نفسه الذي اختلق مأساة الشعب الفلسطيني، هذا الفرق في قراءة فلسطين يجعلنا نلاحظ أنَّ الدعم الصيني للثورة الفلسطينية لكي تستمر في نضالها، أمَّا دعم مسلمي الهند لفلسطين فيأتي من باب الأخوة الدينية، والتي لا أراها فاعلة إذا ما دقَّقنا بتفاصيل ذلك الدعم الذي وُلِدَ باهتًا وأضحى لا يتجاوز الدعاء والتمنّي!
بدأ كولن بجمع الكتب والمقالات الخاصة بالقضية الفلسطينية منذ عام 1974 والغريب أنَّه جمع أيضًا كتبًا باللغة العربية قبل أن يتعلّمها، وكان يقول إنَّ الصوت الفلسطيني خافت، ولابد أن نُعيد كتابة تاريخ فلسطين ولن يكون ذلك ممكنًا إلّا إذا منحناه مساحةً عادلةً لنشر الرواية الفلسطينية، وهنا لا أتكلم بحيادية عن الظالم والمظلوم، فالقضية ليست فلسطين واليهود، بل هي كما وصفها المؤرخ الفلسطيني عبداللطيف الطيباوي في كتابه المهم جدًا العلاقات البريطانية العربية (Anglo-Arab relations and the question of Palestine, 1914-1921/ by A. L. Tibawi)، حينما وصل إلى نتيجة أنَّ أصل المشكلة هي بريطانية فلسطينية ولن تنتهي القضية قبل أن يكون هناك تغيير جذري للموقف البريطاني من الشعب الفلسطيني وخصوصًا مسألة وعد بلفور، وقد شرحها جورج أنطونيوس في كتابه يقظة العرب (Arab Awakening By George Antonius) عندما استنتجَ أنَّ لبريطانيا وثائق وتصريحات أكثر منها مصالح وأهداف، فلا بدَّ أن تخرج تصريحات جديدة من بريطانيا، ومن بعدها يتم تعديل أهدافها وتصويب العلاقة مع العرب.
ويقول كولن: "في كتاب خمسون عامًا في فلسطين لفرانسيس نيوتن (50 Years in Palestine by: Frances e Newton) ورد في الهامش اسم كتاب الحقيقة الفلسطينية للكاتب البريطاني جفريز، وبدأت أبحثُ عن الكتاب، ولم تكن القضية سهلة فهو كتاب مفقود، وعندما أقول لك إنَّك أول أسترالي يعرف الكتاب فهذا لا يعني الكثير لك، وكل معارفي يعتبرونك مرجعًا تاريخيًّا مهمًّا للقضية الفلسطينية، وعندما زرتُ مكتبتك تأكَّدتُ أنَّ الكتب التاريخية هوايتنا المشتركة، إذا أردتَ أن تعرف لماذا الكتاب مفقود وما هي قصة البحث عن الكتاب فهي تدفعك لمعرفة د.عزت جريس طنوس (The Palestinians: A Detailed Documented Eyewitness History of Palestine Under British Mandate 1st Edition by: Izzat Tannous) وعلاقته بالصحفي البريطاني جفريز. فالدكتور عزت هو مؤسّس "المركز العربي" في لندن، وله أعمال كثيرة داعمة للحق الفلسطيني وهو فلسطيني من نابلس وبدون جهوده لم يخرج كتاب الحقيقة الفلسطينية إلى النور. كتاب جفريز يعتبر أقدم كتاب بريطاني تناول القضية الفلسطينية من زاوية مغايرة للرأي السائد. ولمجرد قراءة أعمال جفريز ستطلع على تاريخ مليء بنشطاء الدفاع عن القضية الفلسطينية منذ نشوئها. فجفريز بدأ يكتب عن الحق الفلسطيني من عشرينيات القرن الماضي، أي منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، وهو أيضًا صديق شخصي للعديد من القيادات العربية والفلسطينية وكذلك الكتّاب والصحفيين، وبالتأكيد أنَّ أهمَّ صداقة جمعته مع جورج أنطونيوس في تبادلية الأفكار وتعاونية البحث عن حلول ومقترحات.
ويعتبر كتاب كولن أندرسون المعنون بـ"بلفور في قفص الاتهام" (Balfour in the Dock) أهمَّ كتابٍ مُؤيِّد للحقِّ الفلسطيني بالذكرى المئوية لصدور وعد بلفور، وهو كتابٌ ينفض الغبار عن تاريخ غير مقروء في كتب لم يحالفها الحظُّ بأن تكون مشهورةً ومعروفةً مثل كتاب جفريز (الحقيقة الفلسطينية)، ولمعرفة المزيد عن الكتاب يمكنكم زيارة الموقع الالكتروني التالي: (www.balfourinthedock.com) لطلب نسخة من الكتاب أو مناقشة المؤلف، وهذا جزء من مجهود كبير تقوم به مؤسسات عديدة مثل كارل الصباغ في بريطانيا وغادة الكرمي في الولايات المتحدة لنفض الغبار عن كتاب الحقيقة التاريخية لجفريز (PALESTINE: THE REALITY BY: JEFFRIES). وإضافةً لكتاب كولن أندرسون، هناك مجموعة من الكتب المهمة والتي صدرت هذا العام عن وعد بلفور وهي مؤيّدة للحق الفلسطيني، وهي: (The Balfour Declaration By Elliot Jager) و(The Balfour Declaration: Empire, the Mandate and Resistance in Palestine By Bernard Regan) و(Balfour’s Shadow: A Century of British support for Zionism and Israel By David Cronin) و(Beyond the Balfour Declaration: The 100 year Quest for Israeli-Palestinian Peace By Leslie Turn berg)، لكن بالتأكيد أنَّ كتاب كولن أندرسون يتميَّز أنَّه الكتاب الوحيد الذي صدر في أستراليا التي أصدرت المئات من الكتب المؤيّدة للصهيونية ووعد بلفور. إلّا أنَّ كولن يؤكّد أنَّ المستقبل لفلسطين، وأن ترى القائد العمّالي بوب كار بمجهوداته الشجاعة لدعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لا يجعلنا ننسى أن بوب كار نفسه هو أول من أسّس جمعية أصدقاء (إسرائيل) في البرلمان الأسترالي، وهذا التغير الجذري يدفع الكثيرين للتفكير جدياً بأن يعيدوا قراءة فلسطين ومأساة أهلها، وأقول لك أنّ أي انتقال من الجهة المؤيّدة لإسرائيل إلى الجهة المؤيدة لفلسطين هو انتقال ذو اتجاه واحد، ولا أعرف أي شخصية أسترالية كانت تؤيّد فلسطين، ثُمَّ تحوّلت إلى تأييد الصهيونية، لا ليس فقط في أستراليا بل في كل العالم، لا يمكن أن تعرف الحقيقة ثُمَّ تقنع نفسك بالأوهام، وهذا ما قاله جفريز في عام 1938 فهل تغير شيء؟ لا بل إنَّ كل يوم يؤكِّد أنَّ البشر يعشقون العدل، ولا بد أن يسود العدل في يوم ما. والجدير بالذكر أنَّ كتاب كولن يُعدُّ ثالث أهم كتاب داعم للحق الفلسطيني تمَّ تأليفه في سدني هذا العام بعد كتاب (JANET VENN-BROWN: A LIFE IN ART By Peter Manning) الذي يُعدُّ سيرةً ذاتيّةً لمناضلة رائعة رسمت فلسطين بكلّ ألوانها، وأخلصت لخطيبها الشهيد وائل زعيتر، وكذلك كتاب (Balcony Over Jerusalem By John Lyons) الذي يمثِّل نقلةً نوعيّةً لكاتب متميّز عرفَهُ الكثيرون على أنَّه محايد، إلّا أنه يقول: لا حياد في القدس، فإمَّا أن تعترف أنَّ لها أهلاً مظلومين، أو أنها مدينة محتلة". سدني التي تهرول نحو فلسطين لترفع راية الاعتراف بدولتها، كلّ سنة تقترب للحقيقة التي عرفها جفريز منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها