ليس من الصَّحيح أو الممكن التَّعامل مع الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب على أنَّه جاهل في السَّياسة، أو أنَّه مريض نفسياً، فهو الرئيس المنتخب من قبل الشَّعب الأميركي، والقيِّم على السِّياسة الأميركية.
إن كانت الأمور طبيعية أو غير طبيعية بالنسبة للإدارة الأميركية الرَّاهنة وسياساتها واستراتيجياتها، فإنها تُعبِّر عن طبيعة ومصالح ومخططات الدولة الأميركية. تلك الطبيعة التي اتسمت تاريخياً بالأنانية والعدوانية تجاه الشُّعوب الأخرى.
لن يستمع الرئيس ترامب لنصيحة سلفه الرَّئيس السَّابق باراك أوباما الذي أشار عليه بضرورة التَّروي قبل أن يطلق ما يدور برأسه، لكان الرَّئيس أوباما يرى أن الرجل عفوي، ومتسرع، ولا يقيم وزناً لما يصدر عنه من تغريدات، وتصريحات، سرعان ما تتلقفها وسائل الإعلام الأميركية وغير الأميركية الموالية أو التي ناصبها الرَّئيس ترامب العداء.
بعد كثر حديثه، عن عزمه نقل السَّفارة الأميركية من تل أبيب اضطر ترامب لأن ينزل عند نصائح مستشاريه، فيؤجل تنفيذ ذلك الوعد، استناداً إلى رؤيه للدور الأميركي في المنطقة كلها.
ومرة أخرى وقبل نحو أسبوعين، اتخذ الكونغرس قراراً بوقف ترخيص عمل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، لكن الإدارة تراجعت عن ذلك القرار.
الآن يهدد الرَّئيس ترامب بأنَّه سيتخذ قراراً صاعقاً يوم الأربعاء القادم، يقضي باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، فإن وقّع ذلك فإن نقل السَّفارة الأميركية إلى القدس يصبح تحصيل حاصل.
قد يكون كل ذلك بما في ذلك التهديد بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، شكلاً من أشكال تصعيد الضغوط على منظمة التحرير والسلطة، والكل الفلسطيني، وأيضاً على الدول العربية التي تنتظر كلها التحرك الأميركي نحو ما يقال عن أنه صفقة القرن.
ولكن إن كان كل ذلك من باب استخدام التهديد كوسيلة للضغط فما الذي تريده الولايات المتحدة من الفلسطينيين ثمَّ من العرب؟.
أولاً: تريد الإدارة الأميركية من الفلسطينيين أن تأتي المصالحة الجاري الحوار بشأنها، على مقاسات ولتلبية الشروط الأميركية الإسرائيلية، بمعنى أن تنخرط كل الفصائل الفلسطينية في إطار البرنامج الذي تعمل عليه المنظمة والسلطة، وهو نهج البحث عن التسوية عبر المفاوضات.
غير أنَّ هذا غير كافٍ بالنسبة للولايات المتحدة، إذ على الفلسطينيين أن يتنازلوا عن رؤيتهم للتسوية، التي تقوم على قرارات الأمم المتحدة لصالح الرؤية الإسرائيلية، التي لا تعترف للفلسطينيين بالقدس ولا بحقوق للاجئين، ولا سيادة أمنية أو غير أمنية على الأراضي التي يمكن السَّماح بتسميتها دولة فلسطينية.
وترى الولايات المتحدة أنَّه ليس على الفلسطينيين أن يحركوا ساكناً، لا عبر مقاومة شعبية سلمية، ولا عبر مقاومة سياسية دبلوماسية، وليس فقط المقاومة المسلَّحة المرفوضة بالمطلق من قبل الإدارة الأميركية.
وتريد واشنطن من الفلسطينيين أن يتجاهلوا، كل ما يجري على جبهة التطبيع والتعاون الإسرائيلي مع عديد الدول العربية والإسلامية.
ثانياً: على المستوى العربي والإسلامي، تستعجل الولايات المتحدة تصعيد الصراعات في المنطقة، بما يلزم من تحالفات، تقف وراءها الولايات المتحدة، ويكون لإسرائيل موقع فيها، بصرف النظر عن طبيعة هذا الموقع الذي يسمح لإسرائيل بأن تتمدد في المنطقة، وأن تكون طرفاً في معادلات الصراع.
الولايات المتحدة تستعجل تفجير حروب بالوكالة لا تكلفها ما كلفتها الحروب السابقة التي خاضتها في المنطقة، ما سيؤدي إلى إفقار الدول العربية والإسلامية الغنية، وتنشيط تجارة السِّلاح، وفي النهاية تهديد استقرار تلك الدول.
يعرف الرئيس الأميركي أن لا الفلسطينيين ولا العرب ولا المسلمين يمكنهم أن يقبلوا قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأن مفتاح مواقف وسياسات الدول العربية موجود بالأساس بيد الفلسطينيين، فهم الذين يملكون القدرة على نزع الأغطية والذرائع عن الدول العربية والإسلامية التي تستعجل تطبيع علاقاتها بإسرائيل.
حتى لا تقع الدول العربية والإسلامية في هذا الحرج بما قد يرغمها على إعادة النظر في حساباتها وسياساتها، فإن هذه الدول انخرطت مع الفلسطينيين في تحرك سياسي للضغط على إدارة ترامب من أجل ألا يقع المحظور.
يبدو أنَّ الرَّئيس ترامب وإدارته يتجاهلون حقيقة أنَّ قرار الحرب والسلم في المنطقة معلق بالقضية الفلسطينية، وأنَّ الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة قد بلغ أقصى مداه، من التأثير على المواقف الفلسطينية التي لن تتزحزح عن التمسك بحقوقها.
من حيث المبدأ فإنَّ مثل هذه التهديدات سواء كانت في إطار الضغط أو كانت في إطار التنفيذ الفعلي، فإنها ترسم صورة واضحة لطبيعة السياسات الأميركية، بالقدر الذي ينبغي أن ينتهي وإلى الأبد، كل مراهنة على دور أميركي موضوعي.
إذا كان ذلك معلوماً للفلسطينيين، فإن ما ينبغي أن تعرفه إدارة الرئيس الأميركي أن قراره بشأن القدس إنما يستعجل الإقفال النهائي لملف العمل من أجل تحقيق تسوية للصراع عبر المفاوضات، ما يعني أن الولايات المتحدة ستعود لتحتل موقعها الطبيعي كعدو أول وأساسي للشَّعب الفلسطيني والشُّعوب العربية والإسلامية. فإذا انتهى الدور الأميركي فإنه لا مجال لقوة أخرى لأن تحل مكانه، لا الأوروبيون قادرون ولا روسيا، ولا الصين وبالقطع الأمم المتحدة.
يرتب ذلك وفي كل الحالات على الفلسطينيين أن يلملموا صفوفهم بأقصى سرعة لمواجهة التحديات المتصاعدة بحقهم وبحق قضيتهم وحقوقهم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها