أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية الثالثة عشرة لاستشهاد الرئيس المؤسس ياسر عرفات. سيكون يوماً حزيناً بمرارة فقدان قائد بحجم وتاريخ وسيرة أبو عمار، ويوماً وطنياً كبيراً مع إشراق شمس المصالحة الفلسطينية بعد كل هذا الغياب، ورغم كل الغيوم التي تعترض طريقها.

وككل نهايات أبطال الأساطير، سقط هذا الفارس العنيد عن صهوة جواده، كان مقاتلاً استثنائياً برع في المعارك. وفي الحب، سقط العاشق الحالم الذي أحب فلسطين حتى آخر قطرة دم في عروقه، وهام في حبها حتى الوله، وحمل اسمها وطار به فوق سحب الكون ليجد لها مكاناً بين الدول، وسقط أبو الفلسطينيين جميعاً، الذي أحب شعبه المثخن بالجراح، بعد أن أدمته حراب سنوات التيه والضياع والمنافي.

 لقد أوغل عرفات في رمزيته حد الأسطورة، كان هو الحكاية الفلسطينية والتغريبة الفلسطينية والتراجيدية الفلسطينية والأغنية الفلسطينية والعلم الفلسطيني، ولا يمكن أن تكتمل الحدوتة الفلسطينية دون ذكر بطلها ياسرعرفات، كما لا يمكن فهم أوديسة الضياع الفلسطيني وسيمفونية النضال الوطني والكفاح المسلح من دون البدء بياسر عرفات ورفاقه في العمل الوطني. فهو بداية كل حديث عن فلسطين، ليس لأنه أول من حمل السلاح وأشار بفوهة بندقيته نحو فلسطين، وليس لأنه نجح ورفاقه في فرض فلسطين في أصعب معادلة في القرن العشرين وفجروا ثورة المستحيل في منطقة النفط. وليس لأن أبو عمار ورفاقه هم الذين أعادوا تخليق الشعب الفلسطيني سياسياً وحولوه من سديم غير محدد المعالم إلى حالة وطنية تموج بالثورة. وليس لأنه ذلك الرجل الذي تقدم الصفوف متكئاً على جسده النحيل كجسر لعودة شعبه من عواصم الضياع والمنافي، إلى جغرافيا الوطن والسياسة. بل لأنه توليفة من كل هؤلاء.

كان يحلم وكنا نصدقه، كان يقول: إن الدولة على مرمى حجر وكنا نصدقه، وربما ذلك هو نور اليقين الذي قذفه الله في قلبه، ونور الحق الذي صافح فيه الرجل قمة جبل الجرمق. كان عرفات الثائر والمفاوض يعيد ترتيب كوفيته لينثرها على خارطة فلسطين رغم كل المستحيلات، لقد وضع أبو عمار الكوفية الفلسطينية ليستفز كل عناصر الوعي المكبوت للشعب الفلسطيني، وكل مكونات تاريخ وهوية اللاجئين الفلسطينيين المهددة بالذوبان والانصهار في كيانات أخرى. ومع الوقت تحول عرفات إلى طيف رمزي قادم من عالم الحكايات والأساطير، وجزء أصيل من الهوية الفلسطينية.. نحن الذين صنعناه، صنعنا أحلامنا، حاجتنا النفسية، وعينا الجماعي، صراعنا من أجل البقاء.

حتى الذين اختلفوا معه، لم يختلفوا عليه، وظل عرفات رقماً صعباً على الكسر وخارج المنافسة. كان عرفات يفهم الجميع ولكن للأسف لم يفهمه الجميع. لقد دفعت أبوة عرفات الجارفة أمام شعبه المحروم، لأن يفتح أمامه كل الأبواب، فلم يرد طالباً ولم يخيب قاصداً، وكأنه أراد أن يكافأ كل شعبه دفعة واحده على صبره. كانت القدرة الحدسية لياسر عرفات أو ما يعرف بالإلهام الداخلي- مهولة. رغم أنه كان شغوفاً بجمع المعلومات والتفاصيل وسماع تحليلات المحيطين به، إلا أنه كما يبدو كان يستخدم كل هذه المعلومات والتحليلات لتأكيد أو نفي قراراته التي سيتخذها بناء على حدسه المتطور، تعقيدات وتشابك العوامل المؤثرة على الوضع الفلسطيني كانت مهولة ومتشابكة ولم يكن التحليل أو البحث العلمي كافياً ليغطي كل جوانبها، فمسرح الحدث غير محكوم بجغرافيا محددة، والكتلة السياسية غير متجانسة أيديولوجيا، واللاعبون السياسيون من كل جنس ولون.. فكان لا بد من الأسلوب الحدسي للمعرفة والقرار، وفى الإطار العام عندما نعود لمسار الأحداث، كل القرارات الحدسية التي اتخذها أبو عمار كانت أكثر دقة من التحليل الصحافي أو الأكاديمي. وعلى هذا الصعيد يتحدث المقربون منه: كان يفاجئ الجميع، حين يقفز من سفينة إلى سفينة مخالفاً كل التوقعات والرهانات وتقديرات الموقف وسائراً عكس التيار.

ياسر عرفات صاحب الكاريزما القيادية المدهشة، والشخصية البسيطة المركبة التي تجمع بين العظمة والتواضع المفرط، بين الليونة والحزم العسكري والدهاء السياسي. وفي هذا السياق يحلل الطبيب النفسي د. فضل عاشور شخصية عرفات في نقاط بارزة:

أمام ياسر عرفات نحن تحديداً أمام نمط شخصية يعرف بالشخصية المنشرحة، وهي نمط شخصية مرتفعة المزاج والإيجابية بحيث إن المزاج دائماً بل وفى أحلك الظروف يميل للتفاؤل والقدرة على رؤية أضواء في نهاية النفق، ويرى نفسه عائداً إلى فلسطين ويلوح بإشارة النصر، رغم أنه يغادر بيروت على بواخر المنافي بعيداً عن فلسطين. وبسرعة يستطيع صاحب هذه الشخصية بث روح التفاؤل بالمحيطين به وبشعبه الذي قصمت ظهره الحياة بما يشبه العدوى، كما لديه قدرة جيدة لفهم الجانب الساخر للحدث.

 عرفات أيضاً امتلك شخصية فائقة الديناميكية، فهذا النمط من الشخصية دينامو حركة لا يهدأ ولا يتوقف عن الحركة، والعمل لديه ليس مجرد واجب أو وظيفة بل هو نمط وجود، دائماً يجب أن يعمل شيئاً. والإحساس بالإرهاق لديه أقل من المعدل العام، عدا أن نشاطه الذهني دائماً يكون في حالة مرتفعة ومتقدة فهو يستطيع الانتباه والتركيز على عدة مواضيع دفعة واحدة ويستطيع التذكر وبسهولة ومهما تراجعت الذاكرة كعملية طبيعية وتلقائية مع تقدم السن. وبحكم تسارع التفكير عموماً فإن قدرته على استخدام ما هو متوفر لديه من ربط منطقي بين الظواهر تكون عالية أيضاً، فهو يستطيع أن يزج بهذه القدرة في حيز العمل بكامل طاقتها ضمن نشاطه الذهني المرتفع.. قد يكون هناك أفراد لهم مستوى ذكاء أعلى من أصحاب هذه الشخصية لكنهم على عكسها لا يستطيعون أن يستخدموا كامل طاقة ذكائهم بمعنى أن هذا الذكاء يستمر كطاقة وضع أستاتيكية وليس طاقة ذكاء ديناميكية كالتي يتمتع بها أصحاب الشخصية الديناميكية المنشرحة.

هذه الشخصية ودون أن تسعى أو تتصنع تتحول إلى بلدوزر في مسار الحركة التاريخية لا شيء يستطيع إيقافه، لأنها تلقائياً تصبح مركز وروح أي مجموعة تقع في وسطها، فحجم اندفاع وديناميكية هكذا نمط من الشخصيات لا يمكن منافسته من بقية أعضاء المجموعة، خصوصاً عندما تدخل شخصية كهذه معترك السياسة والأيديولوجية بوجود قضية عادلة وتوفر خلفية تعليمية وثقافية عالية ودوافع وطنية أصيله لهذه الشخصية.

ورغم مضي سنوات طوال على رحيل عرفات الجسدي، إلا أن الفلسطينيين في الوطن والشتات ينتظرون عودته، فأبطال الأساطير والملاحم دائماً يعودون مرة أخرى، أو بالأدق، عرفات لم يخرج من الحكاية، لأنه البطل الأسطوري لهذه الحكاية، والأبطال لا يموتون وهم في حبكة الحكاية.

بقلم: عبير بشير