بقلم: د.المتوكل طه/ خاص مجلة "القدس" العدد 342 تشرين الاول 2017
لأن الخطر، من العمق والحجم والأدوات، ما يستدعي أن لا نتبادل مجرد التطمينات، أو المواقف المكرورة والمعروفة، فإن الأحوال في القدس ليست بخير، كما أن المواقف منها ليست كما يجب ولا كما يليق. هناك مخاطر تصفية حقيقية، وهناك محاولات دؤوبة لتكريس الاحتلال الى الأبد، وهناك تراجعات حقيقية على كل المستويات، الرسمية على الأقل، وهناك محاولات لاستبدال أو تغيير الأجندات أو الأولويات. هذا الخطر، وهذا الواقع، يستدعي أن نتكاشف حقاً، مكاشفة حارقة وحادة، مكاشفة هي مقدمة أولى للعلاج، ومن ثم لتعديل الرؤية والسلوك، وصولاً إلى تغيير النتائج.
وإذا كان الحديث عن الإعلام ودوره في قضية القدس خصوصاً، والقضية الفلسطينية عموماً، فإننا نتحدث عملياً عن المقولة السياسية الرسمية، فلا يمكن للإعلام أن يسبق السياسة، ولا يمكن للإعلامي أو الوسيلة الإعلامية الرسمية أن تقفز على السقوف السياسية أو تتجاوزها أو تناقضها. الإعلام الرسمي بكل أنواعه وأدواته ومصطلحاته، هو ترجمة أو تفسير أو تبرير أو تغطية أو شرعنة للخطاب السياسي، وبالتالي، إذا حصرنا كلامنا على الإعلام الرسمي العربي، ودوره في التعبئة أو التحريض أو الرد أو الفضح – كما يحلو للبعض أن يسميه – أو إنتاج مقولة إعلامية تشكل رداً حضارياً ومقاوماً، فإن أمام هذا الإعلام من المعوقات ما يكفي، حتى يفشل في هذه المهمة تماماً، وذلك للاسباب التالية:-
أولاً: إن ثمة استقطاباً حقيقياً في المواقف السياسية من القضية الفلسطينية، وهو ليس استقطاباً سياسياً فقط، ولكنه استقطاب أيديولوجي أيضاً. هذا الاستقطاب يؤدي إلى مواقف متباينة ومتعارضة بل ومتخاصمة، الأمر الذي ينعكس سلباً على دور إعلامي منسق وموحد وذي رسالة واحدة. إن هذا الاستقطاب يخلق إعلاماً مضللاً وتضليلياً وواهماً ومتوهماً ومشوهاً، لأن الرواية الإعلامية تقدم بطريقة انتقائية جداً، الأمر الذي ينعكس ليس فقط في اللغة المستخدمة، وإنما في تكوين الرؤية والرواية أيضاً.
ثانياً: الإعلام الرسمي المرتبط أو الخادم عملياً للمقولة السياسية، يقع ضحية العلاقة المختلفة مع إسرائيل ذاتها، فنحن في عصر أو زمن تمايزت فيه العلاقة مع اسرائيل، فكيف للإعلام الرسمي أن يتوحّد في الكلام عن مثل هذا النظام المقلق والمستفزّ، وما هي حدود التحريض، وما هي حدود الموقف السياسي، وما هي سقوف الإعتراض . لا يمكن للإعلام العربي الرسمي، أن يتفق حتى على الحد الأدنى، من الرواية الإعلامية الواحدة، فيما يتعلق باسرائيل. يجب الاعتراف هنا أن اتفاقات السلام التي وقعت مع إسرائيل، حتى اللحظة، لم تستوف كامل شروطها، أي الإنسحاب من الأرض المحتلة، وإنهاء الاحتلال تماماً، حتى يمكن لنا كعرب أن نتفق على لغة واحدة، تجاه هذا الكيان الذي يحتل أراضينا.
ثالثاً: لا يمكن للإعلام الرسمي، أن يتخذ مواقف سياسية محددة، هي غائبة أصلاً، بمعنى، أنه لا يمكن للإعلام أن يخترع لغته بغياب الموقف السياسي الحقيقي. بصراحة اكثر، لا يمكن للإعلام الرسمي أن يتخذ مواقف محددة من الصراع العربي الاسرائيلي، دون أن يسند بمواقف وخطاب سياسي واضح وجاد وحازم، وأعود إلى جملتي الأولى، فالإعلام الرسمي لا يمكن له ان يقفز عن الخطاب السياسي، وإذا كان هذا الخطاب مفككاً ومتردداً ومهزوماً، فإن الإعلام سيكون كذلك ايضاً.
رابعاً: يقع الإعلام الرسمي في دائرة الاستهداف الدولي، من حيث خشيته من تهمة الدعوة إلى الإرهاب والأصولية والجمود وعدم الإنفتاح وعدم الليبرالية، إلى آخر هذه التهم الباطلة. والإعلام الرسمي وقع تماماً في المصيدة، بحيث أخذ يدافع عن نفسه وينفي عنه هذه التهمة، وبدلاً من تحويل قضية الاحتلال وتهويد القدس إلى قضية عالمية، فإن نفي تهمة الإرهاب أصبحت هي القضية، وهذا، عادةً، تصرف الضعفاء، الذين يقعون دائماً في دائرة التبرير، بدلاً من انتاج المقولة الذاتية، التي تمتلك من القوة والإمتلاء، بحيث تدافع عن نفسها بنفسها، وبدلاً من أن نكون أصحاب الحق، تحولنا إلى متهمين، لدرجة أن هناك من يريد أن "ينقّي" مناهجنا من بعض النصوص. لنتصور أن نطلب تفتيش مناهج التدريس في إسرائيل أو في بعض مدارس الولايات المتحدة؟ لنتصور ذلك وحسب! إن القناة السابعة التي يمتلكها المستوطنون تبث عادة أشدّ مواد العنصرية والتحريض، أما مناهج المستوطنات التعاونية الصهيونية "اليشيفوت" فحدّث ولا حرج! ولكن لا أحد يستطيع الكلام . ولنتصور الصفاقة والوقاحة التي يتميز بها بعض قادة اسرائيل، الذين يطالبون بوقف التحريض، في الوقت الذي يُطرد فيه الناس من بيوتهم أو يقتلون أو تصادر أراضيهم. إلى هنا وصلنا تماماً. حتى هذا الوضع لم نستطع أن نحوّله إلى قضية عالمية، رغم كل الإمكانات. كما قلت، المسألة ليست مسألة إعلامية، بل هي سياسية بالأساس.
خامساً: الإعلام الرسمي العربي له حساباته الداخلية أيضاً، فهو حذر من أن تتحول هذه القضية الى ورقة داخلية يستغلها الخصوم أو المعارضة أو القوى السياسية الداخلية، وبالتالي، فإن التوجس والحذر والإستخدام النقي المطهّر للخطاب الإعلامي تجاه القدس والقضية الفلسطينية، يأخذ بعين الاعتبار تلك الحسابات، التي تجيز هذا التناول أو هذه المعالجة الإعلامية.
سادساً: وأخيراً، فإن عالمنا العربي يعيش احتلالات مختلفة، منها ما هو مباشر تماماً، ومنها ما هو مقنّع، ومنها ما هو بالاستدعاء، للدلالة على عودة منطقتنا العربية الى الهيمنة الاستعمارية مرة أخرى، وهو دليل فشل الى حدٍ كبير، وهو أيضاً، يقود إلى الإنشغال بالشأن المحلي تماماً، فقراً وتخلّفاً وحروباً إثنية وطائفية، وبالتالي فإن الحديث عن القضية الفلسطينية، لن يكون بالضرورة شأناً أول أو قضية أولى. وإذا تجرّأنا على الحديث عن الإستلاب والتغريب، فإن القضية الفلسطينية تتحول إلى قضية ثانوية في الإعلام العربي. وليس من المستغرب أن تكون دولة عربية كبيرة، لا تضع أخبار القضية الفلسطينية على صدر منابرها الأولى ولا الثانية، بل في التاسعة والعاشرة، وللدقة، فإن دولاً صغيرة وكبيرة تفعل ذلك، وهو عمل لا براءة فيه ولا سذاجة. المشكلة هنا، أن اسرائيل لا تحتل أرضنا فقط، ولا تهددنا فقط، ولكنها تهدد الجميع بلا استثناء، والأدلة أقوى وأوضح من الاشارة إليها، لهذه الأسباب الستة لا يمكن للإعلام العربي الرسمي أن يجتمع على رواية واحدة أو معالجة واحدة لقضية القدس، أو القضية الفلسطينية بوجه عام، فهذا الإعلام يختلف في التسميات والمصطلحات والتوجهات والايدلوجيات والحسابات والرؤى والأهداف . نقول ذلك بواقعية وبدون تجميل وبدون إحساس بجلد الذات أو الذنب، نقوله من أجل أن نصل إلى نتائج عملية بهدوء، فما دمنا مختلفين إلى هذا الحد، فإننا سنترك الساحة خالية لمن سيملأها إرهاباً، أو تشدداً أو خطاباً آخروياً لا يقبل النقاش ولا الآخر. إن عدم إيقاف اسرائيل عند حدّها من خلال النظام العربي الرسمي، سياسةً وإعلاماً، سيعطي الذريعة كاملة والشرعية، لكل تلك التيارات الجاهزة، لأن تدير المشهد كله، لهذا السبب بالذات، فإن استراتيجية عربية رسمية أقوى وأكثر حزماً تجاه اسرائيل، ضرورية تماماً، لتلافي الوضع قبل انفجاره. إن تعنّت اسرائيل وغطرستها وضربها بعرض الحائط كل الجهود العربية الرسمية، لا يمكن لإعلام رسمي متوجس وحذر أن يقنع أو يعبِّىء أو يدافع. إن هذا تحذير لا بدّ من الإنتباه إليه، فاسرائيل ببساطة تهين كل شيء؛ المُقدّس والعالي والرفيع والماجد فينا، والإعلام الرسمي هنا، إما ان يقع في دائرة الأوهام، أو في دائرة الاستسلام ليس إلا.
هذا هو حال الإعلام الرسمي العربي، الذي تعرفون تماماً إلى أين وصلت نتائجه، وماذا حقق؟ أما بالنسبة للإعلام التجاري العربي، فهو إلى حدٍ كبير يتميز بالمتعوية والاستهلاكية والربحية، وليس من الخطأ القول إنه يحمل أيضاً خطاباً علمانياً حداثوياً، وتيرته أسرع وأعمق من البنية العربية، اقتصاداً وثقافةً وعقيدةً، وليس من الخطأ القول إن هذا الإعلام التجاري يبدو لوهلة ما، وكأن لا علاقة له بالجمهور، الذي يتوجه إليه، أو حتى المنطقة التي يتواجد فيها. إن هذا الإعلام الذي كان نتيجة عمليات العلْمنة والحداثة وخصخصة السوق وانفتاح الأنظمة وتخفيف قبضتها على الإعلام، لأسباب لا داعي لذكرها الآن، يتصرف وكأنه يريد استغلال الفرصة التجارية اكثر من أي إهتمام آخر. لم يستطع الإعلام التجاري إطلاقاً، أن يعبّر عن هموم شعوب العرب أو قلقهم، أو المخاطر والتحديات التي يمرون فيها، أكثر من ذلك، يبدو هذا الكلام وكأنه غائب أو مغيّب حتى في أكثر لحظات الأمة العربية والإسلامية توتراً، إذ كان من العيب أن تكون غزة تتعرض للذبح، ثم نرى هذا الإعلام غارقاً إلى أذنيه في عالم من الترفيه، الذي يبدو كاذباً تماماً، في مجتمع تتجاوز نسبة الأميّة فيه 60%، لم يُبْدِ هذا الإعلام اهتماماً بالقضية الفلسطينية الى حدٍ كبير، وهو غير معنيّ بها، وهو أيضاً غير معني بقضية دارفور أو العراق أو الصومال، ولا بالبطالة أو الأميّة ولا أي شيء آخر، بل هو يوهم الجمهور أنه على اتصال بالعالم والحداثة والتقدم، من خلال أكثر مظاهر تلك الأمور سطحية وتفاهة. ولست هنا ضد الترفيه، ولكن ضد أن يتحوّل هذا الترفيه كبديل أو ذريعة أو واجهة أو تغرير أو تضليل، وهو ما يحصل فعلاً للأسف.
أما الإعلام من النوع الثالث، فهو الإعلام المؤدلج، صاحب الرؤية والرواية التي تصدر عن قناعات وأنساق فكرية كاملة متكاملة، فإن هذا النوع من الإعلام وإن كان منشغلاً بالقضية الفلسطينية ضمن انشغالات اخرى أيضاً، فإنه إعلام سهل الاستهداف والعزل، من خلال اتهامه أو محاربته، أو حتى منعه من الانتشار. فتهم الإرهاب والتشدد وعدم الواقعية والتحريض والعبث بأمن البلاد والعباد تهم جاهزة، لمحاصرة هذا النوع من الإعلام، الذي قد يكون من الصواب أن نقول إنه يدّعي امتلاك الحقيقة النهائية، أو اختطافه للرؤية والأسلوب، أو مقارباته الضعيفة في بعض الأحيان. ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن هذا النوع من الإعلام الذي يفتقد للجماهيرية والإنتشار، بسبب عدم اعتماده على الأبهار والشعبوية والترفيه – ولو بحدوده الدنيا – يُحَارب بطرق عديدة، الأمر الذي يؤكد أن دعاة الديموقراطية الكاذبة، يفشلون كل مرة، في امتحان الديموقراطية، عندما يتعلق الأمر بفلسطين وشعبها.
وبالنسبة للإعلام من النوع الرابع، فهو الإعلام الذي يُوَجَّه الينا باللغة العربية، من قبل أعدائنا أو خصومنا أو الدول الطامعة، او الطامحة، فحتى الصين تفتح علينا قنواتها، وهناك روسيا وأمريكا وفرنسا وبريطانيا، وليس أولاً ولا أخيراً إسرائيل. لنتأمل معاً المعنى والهدف من كل هذه القنوات، التي تغسل أدمغتنا وأدمغة ناشئتنا، ما الذي تريده منا هذه الدول ومن بعدها القنوات؟ وما هي الرواية الإعلامية الخاصة بفلسطين والقدس، التي يمكن لمثل هؤلاء أن يرسموها أمامنا؟! وهل سماؤنا فارغة من قنواتنا حتى تمتلىء بمثل هذه القنوات؟ وماذا ستقول المانيا بشأن القدس وهي التي لا تتردد في إقامة علاقات أمنية وتجارية مع اسرائيل، وهي أيضاً التي تريد أن تستثمر في بترول العرب ومعادنهم؟ وما الذي ستقوله فرنسا التي تدعم إسرائيل في كل المحافل الدولية؟ أليس هذا مدعاة للوقوف طويلاً أمام هذه الظاهرة؟ فأمة عربية عريقة تعتقد أنها جاهزة لقيادة العالم، يصل بها الحدّ إلى أن تتعرض لمثل هذا الغزو، حتى في غرف نومها. إن هذا الإعلام الخطير الذي يُوَجَّه إلينا، هو إعلام مدمّر بكل معنى الكلمة، فإسرائيل في هذا الإعلام ليست محتلة! أما دارفور فهي تستحق الإنفصال! والعراق لم يعد وحدة جيو سياسية! وأية إثنية تستحق ان تتمتع بالسيادة! ألا يحق لنا القول إن مثل هذا الإعلام إنما يفعل فعل جيوش احتلال عسكرية أو أكثر.
لهذا كله، لم نستطع أن نسوّق قضيتنا، ولم نستطع أن نقنع العالم حتى بدموعنا، لأن العالم مصالح وليس مجرد محاججة عقلية أو إعلامية. ولأن الإعلام العالمي له أجندات تختلف عن أجنداتنا، ولأن من يملك ويموّل ويسيطر على الإعلام، لا يمكن له أن يضيء أو يسلط الضوء على قضايانا. ونعتقد بسذاجة أنه إذا شرحنا قضيتنا للعالم الغربي سيفهمنا! هذا فهم ساذج تماماً، فالغربي، له مصالح وأهداف ورؤيا، بالتأكيد سيتأثر باستشهاد طفل أو نسف بيت، ولكنه في نهاية الأمر، ومنذ أكثر من ستين عاماً، يدعم إسرائيل لأنها تحقق مصالحه. في الحروب هناك ضحايا، هكذا يقول الفكر الاستعماري الذي ذبح الملايين، ومن السذاجة الإعتقاد والقول إن الإعلام مهما كان فعالاً سيؤثر على الجمهور، إلا إذا انتظرنا ألف سنة، أما العمل الحقيقي والصحيح، فهو الحديث إلى هذا العالم بلغة المصالح، عندئذٍ، سنرى، وبأقل من ثانية واحدة، أن إعلام العالم كله اختلف وأصبح يتحدث عن معاناة الفلسطينيين وضرورة إنهائها، وسيكتشف العالم فجأة أن إسرائيل عنصرية. لا يجب أن ننتظر من الإعلام أكثر من دوره، ولا يجب أن نجلد إعلامنا دائماً بأنه مقصّر، فنحن المقصّرون ليس إلا.
ظل أن أقول إن ثمة إعلاماً عربياً، يسيء بشكل ذكي وحرفي إلى قضايانا الكبرى، الوطنية والعقائدية، من حيث :
أ- يقوم بتصوير وتقديم الصراع العربي الاسرائيلي على أنه صراع وجهات نظر وليس صراع وجود .
ب- يسوّق الاحتلال الاسرائيلي باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الواقع الذي يجب أن نتعايش معه.
جـ- يقدم ويعمم المصطلحات التي تكرس المواقف، التي تدفع المتلقي العربي للقبول بالاحتلال، وبإدانة المقاومة، واعتبارها رجساً يلوّث حياتنا.
د- يعرض المقدسات والتابوات إلى النقاش السطحي، ويجعلها مبتذلة لوجهات النظر التي تتناولها باستخفاف ومجانية.
إن الإعلام العربي بحاجة إلى المزيد من التفكيك والنقاش والحفر حوله، لتبيان كل مكوناته وتداعيات فعله.
الدور التكاملي للمؤسسات الإعلامية المختلفة
إن الحديث عن الدور التكاملي للمؤسسات الإعلامية المختلفة، يفترض ضمن أمورٍ أخرى، أن تقوم هذه المؤسسات على اختلاف أنواعها وأشكالها ومضامينها، بالاتفاق على رسالة واحدة، أو أُطر فكرية ومرجعية واحدة، والاتفاق على الجمهور المستَهدف، والإتفاق على الأهداف الكلية، قومية كانت أم دينية أم سياسية . ولا يمكن أن يكون هناك اتفاق على كل ذلك، دون إطار سياسي وقيمي ناظم، يحوّل أو يصهر جميع هذه المؤسسات في بوتقة واحدة تؤدي عملاً واحداً. وبما أننا لسنا اللاعبين الوحيدين في الساحة، وبما أن الفضاءات مفتوحة، والأسواق تشهد تنافساً قوياً وحاداً، وبما أن الوضع السياسي شديد التعقيد، فإنه من الصعوبة بمكان الحديث عن تلك الأدوار التكاملية، بعيداً عن الافتراض أو المثالية أو الكلام بلغة التمني، وهذا يعني أننا سنتحدث عما يجب أن يكون، لا عمّا هو كائن، فما هو كائن ينبء عن ضبابية شديدة وتداخل أكيد واضطراب عظيم . والحديث هنا لا يدور عن الانقسام أو الاحتلال فقط، وإنما يدور أيضاً عن الغزو الفكري والثقافي بكافة أشكاله وأنواعه، فعالم التكنولوجيا ووسائلها، التي جعلت من العالم سماءً مفتوحاً، وحولت سكان الكوكب إلى مجرد مستهلكين، لما تلفظه وسائلُ الإعلام المختلفة، عرّضت الثقافاتِ المحليةَ إلى أن تكون أهدافاً حقيقية للخلخلة والتشكيك والإهانة.
وبالتالي نحن نتحدث عن واقع يكاد يقترب من الفانتازية، وخاصة في المجتمع الفلسطيني، الذي يتعرض لكثير من عمليات الشد والجذب، والتغيير والتحوير، على مستوى المرجعيات والانتماءات والتحولات الفكرية. ومن هنا، فإن المؤسسات الإعلامية المختلفة، أكانت حكومية رسمية، أو خاصة تجارية، أو مؤسسات تربية موازية كالمسجد والنادي والحزب، مدعوّة حقاً إلى أن تقف جميعاً في خندق واحد، من أجل مقولة واحدة جامعة في حدودها الدنيا على الأقل.
فهناك تحديات عديدة، قوية وداهمة وطويلة الأمد، فالاحتلال أولاً هو العائق الأكبر والأهم في عمليات التفكيك والانحلال، فالاحتلال يمنع تواصل الجغرافيا، ويمنع تشكّل الهوية السياسية، ويعمل على تذويب الذات الوطنية، ويهدف إلى أن يبقينا مجموعات غير مُعَّرفة قانونياً، والاحتلال له أدواته ووسائله ورموزه وأساليبه المختلفة.
وهناك من التحديات ما يرتبط بالاحتلال أو ما يدعمه من مشاريع ثقافية وتنموية وخدماتية وإعلامية، وهي مشاريع تصوّب بدقة لاستهداف الذات العربية والفلسطينية، بدون مواربة وبدون أقنعة. فنحن، كما في البلدان النامية جميعاً، مستورِدون ومستهلِكون لما تبثّه وكالاتُ الأنباء الدولية الكبرى، ومراكزُ إنتاج البرامج التفلزيونية في الدول المتقدمة، ولم يعد لدينا – بشكل عام – أيُ دور في الرقابة والإشراف على تلك المواد المرئية وغير المرئية، التي تتدفق إلينا من خلال وسائل الإتصال المختلفة، من غير عقبات أو استئذان. إن مثل هذا الغزو، وهو غزو بكل معنى الكلمة، يهدف فيما يهدف إلى ما يلي:-
أولاً: تأجيج الصراع الدموي، عرقياً وإثنياً ودينياً وسياسياً، بين مختلف مكوّنات العالم العربي.
ثانياً: تقديم أُطر ثقافية تشجّع نمو نماذج إقتصادية وإجتماعية معينة، في أطراف وقلب العالم العربي .
ثالثاً: محاولة دمج أو العمل على تعايشنا مع الاحتلالات المختلفة، باعتبار ذلك جزءاً من عملية التقدم والتنمية .
رابعاً: محاولات التشكيك وخلخلة المرجعيات الثقافية العربية والاسلامية، وصولاً إلى رفضها أو عدم الايمان بها، أو على الأقل عدم احترامها، وهو هدف أعتقد أنه تم الوصول إليه .
خامساً: تغيير الذائقة العامة والسلوك اليومي وعادات الاستهلاك، وتغيير أساليب الحياة، كتفجير الأُسرة وعدم احترام الكبير وتقديس الحريات الفردية، التي تتعارض مع القيم العامة.. الخ .. الخ .
سادساً: إدخال قيم جديدة كتقديس العنف والقوة، وتمجيد الجنس واحتقار العالم وانتهاكه.
يجب القول إن ما يجري لا يمكن وصفه بالتبادل المتوازن والحوار البناء والتفاعل المفيد بين الثقافات، فهو بالإضافة إلى المحتويات والمضامين السلبية، فإنه يجري باتجاه واحد، وكما يقول هنري غوبار مؤلف كتاب "الحرب الثقافية" فإن هذه الحرب هي أخطر من الحرب الساخنة، لأن الأخيرة تعبىء الجماهير بينما الأولى تتسلل بمكر وتدريجياً، وتدق بمطرقتها بإلحاح واستمرار على الأذهان والعقول والأذواق فتعمل على تسميمها.
وبالمناسبة فإن ما نعانيه من هذه الحرب، تعانيه دول كثيرة وحتى اوروبية. ويمكن القول إن "الحرب الثقافية" هي تعبير يستعمل حتى في الولايات المتحدة، فيما يعرف هناك بتمحور ثقافتين علمانية ودينية تجد تعبيراتها في الاختيارات السياسية والسياسات الخارجية.
إن مواجهة هذه الحرب لا تعني الإنعزال أو الإنكفاء إلى الوراء، بل لا بدّ من المواجهة والنزال بجهد مشترك مبرمج وذكي ومركّز وواعٍ ومستمر وذي إمكانات وقدرات، على أصعدة التعليم والنشر والبرامج التلفزيونية والأفلام والإعلام الرسمي والخاص والموازي . المقصود بالمواجهة هنا، هو الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة. وكما ورد في مقدمة الخطة المتوسطة الأمد ألأولى لليونسكو عام 1976، فإن المناداة بالذاتية الثقافية التي تمثّل عنصراً من أكثر العناصر تمييزاً لعصرنا، ليست من قبيل الحنين الذي لا طائل تحته، إلى ماضٍ عفا عليه الزمن، أو هي مجرد حقيقة مرتبطة بالتقاليد، وبذلك السجل الذي تدوّن فيه الخبرات المتراكمة، ألتي اكتسبها المجتمع عبر التاريخ، ولكن مغزاها يكمن في النظر إلى الماضي كنواة لصنع المستقبل. وهكذا فإن التراث الثقافي بمختلف أشكاله يعدّ عملاً لدعم الذات الثقافية، وذلك شرط الإنفتاح الثقافي الإيجابي على الثقافات المختلفة. إن هذه العملية لا يقدم ولا يقوم عليها جهة واحدة أو فرد واحد، بل هي عملية يتكامل فيها دور المؤسسة الرسمية بكامل أذرعها، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني بكامل تفرعاتها، وكذلك الأفراد والشخصيات ذات التأثير الأدبي والفني والإبداعي
التحدي الثالث الذي نعيشه هو تحدي الإنقسام السياسي والأيدلوجي، وهو انقسام يمسّ بكل منجز فلسطيني سابق أو لاحق. الإنقسام يجرّ معه ادعاءات ومفاهيم ودوافع جديدة تبحث عن تسميات وعن شرعيات، وهنا مكمن الخطر الشديد . إن شرعنة الإنقسام والتعايش معه وقبوله على كل المستويات، إنما يخلق تاريخاً جديداً وثقافة جديدة وسلوكيات جديدة.
ولا يمكن تسوية هذا الانقسام عسكرياً أو أمنياً، بل لا بد من استخدام عمليات الحوار والإقناع والإعتراف بالآخر الوطني، والإحاطة والشمولية وتجفيف مصادر الانقسام، وفهم أسبابه ومسوغاته ونزع فتائله، وكذلك الذهاب إلى التسويات والتدوير ونقاط الألتقاء وقطع منتصف الطريق وعمليات التغليف والتأخير والتأجيل. الإنقسام الذي نعيشه ليس مجرد حادث عرضي في تاريخ ثورتنا وشعبنا، الإنقسام حدث عظيم، تستخدمه أطراف كثيرة، وتستفيد منه أطراف كثيرة، وهناك أجندات خارجية، وهناك استقطاب ومحاور، وهناك مصالح داخلية وخارجية، وهناك رؤى استراتيجية، نتحوّل فيها نحن الفلسطينيين جميعاً إلى مجرد أدوات. إن دور الإعلام هنا، ودور مؤسساته المختلفة، لا بد له إلا أن يكون إعلاماً موحداً، بمعنى اختيار الوطن، وأن يكون موضوعياً باعتباره ساحة المناظرة، وأن يكون وسطياً بمعنى اختيار الوفاق والاتفاق .
وحتى لا نبسّط الأمر، فإن الإعلام هنا ليس هو من يملك كل مفاتيح الحل، فإنهاء الإنقسام هو مسؤولية القيادة ومسؤولية الإفراد معاً. فعادة ما يستسهل الإعلام مسألة التوظيف والاستخدام والوقوع تحت التأثير والتمويل والهوى والمصلحة والأجندة الغريبة والمرفوضة . وعادة ما يستسهل الإعلام التبسيط والتسهيل وعدم الرغبة في الخوض في المربك والمحرج والباهظ وذي الفواتير العالية . هذه هي خطيئة الإعلام ومؤسساته، إنها ذات رغبة في السهولة والتبسيط والربح والتجارة. ولكننا هنا نتحدث عن مستقبل الوطن ومستقبل القضية ومستقبل الشعب . التحدي الذي أمامنا تحدٍ عظيم، ولا يجوز لنا، ولا ينبغي أن نقع في دائرة التوظيف والاستخدام واغراءات الربح والأجندات .
إن مؤسسات الإعلام المختلفة، على أنواعها، مدعوّة إلى رسالة واحدة وموحدة في هذا الشأن. وإن الوسطية هنا تشكل مدخلاً دينياً ومسوغاً وطنياً وشرعية ثورية للوصول إلى كلمة واحدة ورؤية واحدة، مهما تعددت الرؤى، فنحن مجتمع متجانس ثقافياً، يوحدنا المكان والهدف والضرر، وحتى الوسيلة لا نختلف على استعمالها، وإنما نختلف على توقيتها. وحتى الوطن، لا نختلف على حدوده، وإنما نختلف على المساحات الممكنة أو المتاحة . هل نحتاج إلى إعلام ذكي أم إلى ارادات ذكية ؟! هذا سؤال برسم الافراد والقيادات معاً.
ولعلي أهجس بإننا بحاجة إلى إرادات ذكية ..
الصحفي في مواجهة العولمة
إذا كانت وسائل الإعلام الحديثة تهدم المكان وتعيد تشكيل الزمان، فإنها بالتأكيد قادرة على إعادة قوانين السوسيولوجيا أيضا.
إن سوسيولوجيا العالم مختلفة بعد الانترنت والتلفزيون الرقمي. وفيما تتسابق وسائل الإعلام على إضاءة العالم واكتشاف عيوبه ونقائصه ونقائضه، فإن لذلك أثماناً باهظة أيضاً.
وإذا كانت العولمة تُبشر بعالم صغير ونظيف وبلا حدود وبحريات لا حدود لها أيضاً، فإن ذلك قمين بفتح ملفات الهوية وتعريف الذات. عصر العولمة هو عصر الانكشاف والإضاءة والكاميرا، هو عصر الجماعات الصغيرة أيضا، عصر الحقوق، وعصر الفرد الذي يختزل جماعته كذلك.
عصر العولمة عصر معقّد بما يكفي. الكاميرا لا تحل المشكلة، وحرية الصحافة لا تضع الحلول، وربما كان ذلك يعمل على تركيب المشهد وتعقيده، لأن حقوق الفرد تكبر، فيما تصغر الجماعات أكثر فأكثر. إن إنهدام الدولة في عصر العولمة جديرٌ بنهوض الجماعة ونهوض الفرد أيضاً .
ومن هنا،أو، ولهذا كانت حقوق الإنسان الفردية والجماعية مسألة مطروحة بقوة في هذا العصر بالذات، ليس فقط بفضل القوانين الدولية والمحلية، وإنما بسبب هذا الانفجار المعرفي والثورة الاتصالية.
والإعلام سلاحٌ أعمى بدون أيديولوجيا، والإعلام قوة ضالة مضلة بدون وعي يحكم وينظم ويعرف أهدافه، ولأن الأمر كذلك، فإن مسألة حقوق الإنسان عندما يتناولها الإعلام، تختلف باختلاف المواقع والمصلحة والمرجعيات.
إننا ننتمي إلى شعب ضُيّعت حقوقه الفردية والجماعية منذ عقود طويلة، مثلُنا مثل شعوبٍ كثيرةٍ في هذا العالم، ولكن الإعلام الغربي بالذات، وهو الإعلام المسيطر والمصدّر للرواية الصحفية، يتجاهلنا تماما، بحجة الالتزام الأخلاقي لطرف آخر، وبحجة الحساسية الغربية المتعلقة بمن يحتلّنا.
وإذا كانت حقوق الإنسان "موضة" عصر العولمة، فإن الإعلام الغربي، القوي والمسيطر والمصدّر للنموذج والبنى المقبولة دولياً، يستطيع أن يجعل من قضية انتحار حيتان على شاطئ مجهول ما، أكثر أهمية من قضية ذبح مليون شخص في بلد عربي أو في مجاهيل إفريقيا، أو تشريد شعب بأكمله في فلسطين.
إذن، والحالة هذه، فإن القوي هو صاحب الرواية، وهو سيد السرد، وهو صانع الصورة، وهو بذلك يعيد صياغة العالم كما يريد، فهو يطلق الصفات، وهو من يسمّي الأشياء، وهو من يَحبِك العقدة، ولديه صناعة التصديق ونظريات التأثير وحاملات روايته، وهكذا فإن مسألة حقوق الإنسان الفردية والجماعية تبقى مسألة خاضعة للهوى والمزاج والمصلحة والرؤية الفكرية.
فما هي مسؤولياتنا باعتبارنا إعلاميين فلسطينيين وعرباً ومسلمين ؟! أو باعتبارنا أصحاب قضايا كبرى مستباحة ومستلبة ومنهوبة؟
وما هي قدراتنا الحقيقية أو على الأقل التي نسيطر عليها ؟
وما هي ثروتنا الإعلامية التي يمكن لها أن تقدم رواية أخرى وسرداً آخر وصورة أخرى غير تلك النمطية أو الإستشراقية أو تلك التي يؤصّلونها بعد الحادي عشر من سبتمبر؟
إن الإعلام هو ترجمة حقيقية لموازين القوة والضعف، وإن الصحفي، وبالتالي روايته الصحفية تنبع من موقفه في العالم أيضا ً.
وإن لغة الصحفي هي جزء من طموحه الشخصي والجمعي، وهنا لا تكفي الحقيقة ولا الموضوعية، مهما كان ذلك صادماً أو جارحاً.
ونحن هنا لا نرفض المهنية ولا الموضوعية ، وإنما نرفض الحياد، فالصحافة في نهاية الأمر التزام وانتماء إلى الزمان والمكان والإنسان؛ انحياز للحق مهما كان ضعيفاً، وانحياز الإنسان مهما كان مهّمشاً ومهشّما ومغيباً.
نحن، كإعلاميين على هذه الأرض، تقع علينا مسؤولية القول كما ينبغي، ويقع علينا واجب السرد ؛ سرداً فلسطينياً نهضوياً ينحاز للإنسان والخير والعدل، للتتمايز الرواية الفلسطينية – على ضعفها أو عدم وصولها – عن رواية المحتل والظالم والشرير.
العالم مجرد حَبكة، والإعلام القوي المسيطر يستطيع أن يَحبِك روايته جيداً، ويجد لها ذرائعها الأخلاقية ومبرراتها الإنسانية، بل ويقوم بتأويل النصوص المقدسة لتكونَ ذريعةً أخرى بيده يستخدمها كمرافعةٍ وجيهة في وجه خصومه، ويستطيع أن يقدمها بطريقة باهرة ومثيرة ومغرية ومُغْوية، وهي بسبب انتشارها وقوة حضورها قادرة على التأثير والتغيير.
ولا يمكن لخبرنا أو سردنا أو صورتنا أن تصل دون قوة الحضور والتأثير أيضاً.
هل نقول إن إعلامنا عاجز لأنه جزء من جهد جماعي عاجز؟!
وهل نقول إن رواية الضعيف عادة ما لا يصدقها أحد؟!
وهل نقول إن حقوقنا ضائعة بسبب أن إعلامنا عاجز، أم أن اللحظة التاريخية العربية كلها عاجزة؟!
أسئلة يطرحها الوقت الحالي أكثر مما أطرحها شخصياً . فنحن في عصر تتسيّد فيه الكارتلات الصناعية الكبرى التي تُعلي الربح على القيمة، والمنفعة على أي شيء إنساني آخر.
وعصرنا ، صراع أيديولوجيات وحَبكات، وتلعب فيه الكاميرا دوراً هاماً وثورياً، خاصة بعد أن تم انتقال الثقافة من المكتوب إلى المرئي.
وعليه فإن حق الإنسان في العيش والتعبير وحرية التنقل والعبادة، وقبل ذلك حقه في تقرير مصيره، كلها مسائل تتحول إلى أسئلة من نوع آخر أو هامشية أو تتعرض لتحوير مؤذٍ في عصر ٍزادت فيه الأضواء والأهواء وتحوّل العالم إلى عالم افتراضي.
وفي مثل هذا العالم، فإن الصحفي الفلسطيني يواجه ليس فقط عوائق الاحتلال، وإنما عوائق تَغيّر التاريخ أيضاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها