بقلم: خالد غنام أبو عدنان/ خاص مجلة "القدس" العدد 342 تشرين الاول 2017
كم قلت أمراض البلاد وأنت من أمراضها * والشؤم علتها فهل فتشّت عن أعراضها * يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها (الشاعر ابراهيم طوقان).
تتكاثر الأقلام التي تكتب مدحاً أو قدحاً لأي حزب سياسي، هذا التلوّْن في الكتابات هزم الفكر السياسي وسحق مفهوم حرفية الإعلام الحزبي والصحافة التنظيمية، لتتحوَل الكتابات الى مجرد وجهات نظر: لا تحمل فكراً ولا تطرح حلولاً لأزمات، إلا من رحم ربي، وإن كان هناك مخاوف من إنصاف المثقفين وأرباعهم وأثرهم على الفكر السياسي، إلا أن الطامة الكبرى أن الثقافة تحوّلت إلى مرض! فلا داعي لفلسفة الحل ولا داعي لدراسة الأزمات، بل إن الكتابة لابد أن تكون قريبة من حديث رجل الشارع، كلمات بسيطة وأفكار مكررة ومجردة من أي معنى فهي فشّت خلق: أي كلمات تُقال حتى لا تخنق، هذا إذا أراد الكاتب- مجازاً، كاتب لأنه يكتب- أن يكون معروفاً لدى النخبة التي تدفع راتبه والشعب الذي يريد أن يقنع نفسه أن النخبة تفعل شيئا مفيداً لأن الكاتب قال ذلك!
الكتابة في عصر الليبرالية الجديدة تعني الكتابة بحرية لدرجة الإباحية فلا مبدأ مقدّس ولا جريمة هي فعلاً جريمة، وأن الحقيقة قد تكون صحيحة لكن ليس دائماً، فقد ترفض فرضية: أن الشمس تشرق من الشرق، لا لأنك لا تعرف أين الشرق! لكن لأن الوقت ليل ولابد أن تنتظر حتى الفجر، لتتأكد من أن الشمس سوف تشرق من الشرق! وبشكل معاكس تماماً فإن الطفلة لا تَحْبَل إذا كان عمرها تسع سنوات، وحتى لو قالت أنها تحيض! فهي لا تحبل لأن عمرها تسع سنوات! نحن في عصر منطق اللا منطق، في فارع الزمن من معامل التوقيت والسكون الصامت لكل مبدأ كان من البديهيات، لأن العصر الحالي لا يتمرد على العصر الفائت بل أنه يتمرد على مفهوم عصر حالي، فهي الرفعة العليا للأنا، حيث أن الانسان يتخيل نفسه أقدر على التحكم بكل العالم عن طريق التكنولوجيا، حتى التحكم بعواطف الآخرين، فلا يوجد شيء خارج مفهوم المادة والحاجة الملموسة، فالعاطفة هي مجرد جوع نفسي: للحبيب أو القريب أو حتى الوطن، وهذا الجوع لا يمكن أن يشبع إلا بتوفير البدائل المادية، ولابد من إقناع النفس البشرية أن الوطن البديل أفضل من العيش على أطلال وطن دمرته الحروب. نعم فكّر بنصف الكوب الممتلئ لا بنصف الكوب الفارغ! ومن قال أن هذا الكوب لي؟ ومن قال أنني أريد النصف الممتلئ؟ ولماذا أريد أن أفكر؟ ولماذا دائماً يكتبون بصيغة الأمر لي أنا؟
إذن المسألة ليست مقتصرة على الكتّاب الجدد بل هي مرحلة سياسية هبطنا لها، نعم الليبرالية هبوط بكل شيء نحو الأسفل، فلا قيمة للثقافة ولا لحملة الشهادات الجامعية ولا للجمال ولا لأي شيء بحاجة لجهد، إنها المادية التجريدية فكل شيء قابل للبيع أو المساومة، فقد قال آلن ماتوسو: الليبرالية مرت بتجارب في كثير من البرامج والصياغات العقلانية الجديدة لدرجة أنها ظهرت بشكل أقل من مخلوق من الماضي من مجرد كونها حالة نفسية. بل هي هبوط تدريجي نحو الثقافة السطحية: ثقافة تكتسبها أول النهار وترميها قبل أن تنام، فهي تعطيل العقلانية الليبرالية وقد شرحها هنري آرون فكتب: هي إفساد أي معتقدات بسيطة تم بناء التآلف السياسي حولها على نحو عادي، وعندما يثبت أن البحث غير حاسم أو تم إبطاله باكتشافات جديدة وعندما تعمل المناقشات الثقافية على تفويض الحقيقة العامة بشأن الخبرة، ستصبح الرغبة والرؤيا السياسية باهتة. إلا أن هذا لا يعني أن الرؤيا الباهتة مرفوضة أو مقبولة بل أن الرؤيا لها مقاييس نسبية تتغير باستمرار، فلا يمكن أن تقبل الثبات المستمر وهي أيضاً ترفض التعميم على كل المجتمع، وقد كتب راسل كيرك: يشرح النسبية الأخلاقية على أنها المدرسة الحقيقية للمحافظين والتي تعتقد بالقصد الإلهي في حكم المجتمع وأن المشكلات السياسية في أساسها دينية وأخلاقية وكمتمسك متطرف بالتقاليد القديمة، فقد دافع كيرك عن الأعراف وتحيّز للألفاظ الشعبية الدارجة. أي أن الإطار الخارجي الجامع يكون عاملاً متوافقاً بين الجميع إلا أن المكونات الداخلية متغيرة، فكما أن الفكر الديني مقبول في السياسة إلا أن السياسة قادرة أيضاً على تغيير الفكر الديني، كما حدث لقانون تشريع زواج المثليين، فعلى الرغم أن الزواج المدني لا يتطلب موافقة الكنيسة عليه، إلا أن كل الأحزاب السياسية ضغطت على المرجعيات الدينية حتى قبلت أن تعدّل الفكر الديني وتجد مخارج وفتاوىً للقرار السياسي! وهذا ما توصل إليه فوكاياما: عندما استنتج نهاية التاريخ بأنها تعني نهاية الصراع الإيديولوجي واسع المدى، والحل الأخير للتصادم الجدي للأفكار، مع النصر الواضح للمثاليات الديموقراطية الحرة، كل ما يبدو أنه كان سيأتي بعد ذلك كان حملاً مجّرداً خارج الاختيارات، فلا قيمة لأي مبدأ أو معتقد. أما قمة السخرية من الفكر فقد اختصرها كورت فونيجوت: عندما كتب "يدّعى الكاتب الرابع عشر:" ماذا يقدر الانسان العاقل أن يتمنّى للإنسانية على الأرض، إذا ما اعتبرنا تجربة المليون سنة الأخيرة؟" وينتهي الكاتب بسرعة: "يتكون هذا الأمل من كلمتين ونقطة، وهي لا شيء".
إن قراءة المركبات المكونة للعقلانية الليبرالية تجعلنا نفهم بشكل منطقي أنها صبغة طاغية على الكتابات العصرية التي لا تتناسب إلا مع المرحلة التاريخية الحالية، فهي لن تصمد في كتب التاريخ بل إنها لن تقرأ بعد شهر من كتابتها، فهي للاستهلاك العاجل المؤقت الذي يناسب الواقعية السياسية ولا يتعارض مع الإباحية الفكرية، فهي جدولة لديون تراكمت قبل ان يتم الاعتراف بأن هناك علاقة مديونية بين الدائن والمدين. وهنا تأتي أهمية شرح المركبات المكونة للعقلانية الليبرالية.
تعتبر نظرية تقديس البطل هي المرجعية التاريخية للعقلانية الليبرالية، هذا البطل هو الحاكم القوي القادر على حماية المجتمع مع اختلاف تعريفات معنى الحكم ومفهوم القوة ودواعي تشكيل المجتمع وحاجته للحماية، يبقى هناك عوامل مشتركة ترسم شكل البطل القومي لكل أمة، وهو بالتأكيد ليس شخصية أسطورية بل هو قائد سياسي حقيقي استطاع أن يبني اللبنات الأساسية للحمة المجتمعية ويبث فيها الروح القومية. فقد كتب كنوت هامسون ساخراً "ما الفائدة لو أنت حرّكت هذه الجماهير إذا ما عرفت أنّني سوف أصلب بعد ذلك؟ فمن الممكن أن تجمع أفراداً كثيرين قادرين على السيطرة، ومن الممكن أيضاً أن تعطي هذه الجماهير سكين الجزّار وسوف يحققون لك الفوز بالانتخابات. ولكن هذه الجماهير لن تقدر على الوصول إلى بركة روحية أو أن تحقق تطوّراً يستفيد منه العالم، هذا ما لا يقدر عليه الجمهور بل الرجل العظيم، فقط صاحب الآمال الكبيرة، أما الآخرون، المحامي والمعلمة والصحافي وحتى قيصر البرازيل فهم هناك قادرون على إبداء إعجابهم ببطلهم الملهم وتقديس سلطته على المجتمع". كما يذهب إسحاق آسيموف إلى أبعد من الاستخفاف من مفهوم البطل، بل إنه يشكك بضرورة توفير الأمن للمجتمع فقد كتب: "هم –أي الأبطال- يعنون في بعض الأحيان أننا هنا لنحمي الإنسانية من البلاء، لكن ذلك مبني على اعتقاد بالخرافات ولو أنه من ناحية أخرى يتفق مع الحقيقة، وهذا جيّد أيضاً، فهم يُضفون على الأجيال صورة أب جمعي ويستمدّون من ذلك قدراّ من الشعور بالأمن"، فالمسألة تتجاوز تحديد البطولة إلى توريث مهمة حماية المجتمع فهي القداسة الوراثية لجين القوة في اللحمة المجتمعية.
فإسحاق آسيموف لا يعتبر البطل شخصاً ملهماً بل هو شخصية لها كاريزما قادرة على استغلال الظروف المحيطة وتجيير كل الطاقات لخدمة طموحه في بناء ذاته، بل إن هذا البطل قد لا يكون فارساً مغواراً لكنه يمتلك جيشاً قوياً، كما أنه قد يكون ذا تفكير سطحي لكنه يمتلك مستشاراً حكيماً أو حتى طبقة من المثقفين يفكرون بالنيابة عنه، ولقد درس هذه القضية جيمس سميث فكتب: "إن المستشار الخبير والعمل الفكري في ظل السلطة كان له دوره في الحياة السياسية لأكثر من ألفي سنة. وقد بدأت الاستشارة السياسية في الغرب مع المعلمين المشهورين الذين كانوا يعلمون الأمراء الصغار ويعِّرفونهم للقيادة. والقائمة متنوعة وتضم أرسطو الذي علّم الاسكندر المقدوني، وسينيكا الذي علّم نيرون، أوريلاك أو جيربرت الحكيم الذي علّم كل من أوتو الثالث إمبراطور ألمانيا وروبرت كابت ملك فرنسا، وكذلك توماس هوبز معلّم تشارلز الثاني، كما أن لويس الرابع عشر تتلمذ على يدي الكاردنيال مازارين". إلا هذه القاعدة وإن كانت متكررة بالتاريخ فهناك عزوف مستمر لدى الحكام عن المفكرين الأذكياء المشهورين، فهم بالنهاية يرفضون الاستسلام لكل ما يقوله المستشار، بل إن بعض الأمراء رفضون أن يكون لديهم مرايا فكرية، أي أن يكونوا عراة بدون رأي أمام مستشاريهم، وأحياناً يرفضون، أفكارهم لا لإنها لا تناسبهم بل لأن قوة رأي المستشار ستظهر الأمير على أنه مجرد إمّعة تابع لرأي مستشاره، ولعل كتاب الأمير لنيقولا ميكافيللي إحدى كتب مرايا الأمراء أي كتب تدريب الأمراء على المسلكيات القيادية خيرها وشرها، إلا ميكافيللي فشل بإقناع لورنيزو دي ميوتش في تبني وصايا كتاب الأمير رغم أن الكتاب لم يكتب لأحد سواه. فالكتاب إنقلابي لكل ما هو دارج في ذلك الوقت عن مفهوم آليات الحكم ونظريات السياسة، فقد أنكر ميكافيللي الأخلاق السامية ولم يعتبر أن الأخلاقيات مسألة تؤثر بجماهيرية الأمير، بل أن الجماهير تحب أن تبقى خائفة بحماية الأمير القوي الذي يسحق الأعداء ويقمع أي تمرد ضده.
أما المركب الثاني للعقلانية الليبرالية فهي نظرية العبودية، فلا يوجد خلاص للانسان من حب السيطرة على باقي البشر، بل إن مجرد التفكير أن هناك قوة خارقة أقوى من البشر لا تعني أن الانسان القوي لن يستعبد الانسان الضعيف، بل إن أكثر الأديان عدالة لا تمانع البشر من استعباد بشر آخرين ضمن شروط وظروف تتنوع بتنوع الأديان ومذاهبها التحليلية لنظرية العبودية. إلا أن الفكرة العامة أننا كلنا عبيد أو كما كتب جان إلبورغ: "كل منّا عبد من خلال بقعة الوحم"، بل أن بلومنباخ ذهب بشروحاته إلى أبعد من مجرد الشعور بالعبودية إلى أن التركيب الجسماني للبشر هو تركيب عبد يلبس جلد بشر فقد كتب: "مبدأ الكربون يفسّر أن الأسود لون نسبي للبشر، فمادة الكربون تتسرب إلى ما تحت الجلد بمساعدة مادة الهيدروجين حيث تتأثر هذه وتتفاعل مع الأوكسجين الموجود في الرطوبة وتنفجر ثم تتعلق بالمادة اللزجة الموجودة تحت الجلد". لهذا يكون الاستنتاج الدائم أن القوة الخارقة هي بيضاء اللون وأن العتمة السوداء هي العبودية أو بتسمياتها الناعمة العفة والزهد والرهبنة، وهذا ما دفع جان جينز ليكتب: "الله أبيض منذ ألفي سنة وهو يأكل من صحن أبيض وينظف فمه الأبيض بفوطة بيضاء، وهو يتناول غذاءه من اللحم الأبيض بشوكة بيضاء، وهو يرى الثلج حين يسقط".
وهذا يجعلنا نفهم ضرورة المركب الثالث للعقلانية الليبرالية أن تكون نظرية الخوف، فلا يمكن أن يتشكل المجتمع بدون وجود حماية له من الخوف، بل إن قوة الجيش تحدد حجم المجتمع بالمدن العتيقة، وأكثر من هذا أن نوع الخوف يتغير بمنهجية متحركة داخل الدوائر الأربعة المُشَكّلة لعقدة الخوف، فقد وصف الدائرة الأولى فرويد: "بالليبيدو على أنها الروابط الحيادية وهي حقيقة روح الجماهير". فهي تنفي صفة التنافسية على المأكل والمسكن وغيرها من الحاجات الأساسية إذا ما كانت الوفرة أو الندرة هذه تخضع لقانون استمرار عضوية الانسان بمجتمعه، فالحيادية هنا تأتي كحاجة ملحة أن الجنة بدون ناس لا تداس، أي أن أهم حاجة أساسية للبشر هي استمرار عضويته في مجتمعه. أما الدائرة الثانية للخوف فهي الخضوع لقوة واحدة ورفض التعددية القاهرة، فالعبيد يرفضون أن يشعروا أنهم عبيد دوماً ومن كل البشر، بل أنهم عبيد لشخص بعينه، ويتعاملون مع باقي البشر وفق مفاهيم المساواة. إلا أن مسألة الخضوع لقوة واحدة أثارت هاجس القوى الاستعمارية عندما فرضت المجتمعات الفقيرة في افريقيا على الجيش الفرنسي ضرورة أن يكون طرفاً بالصراعات القبيلية وأحياناً أن يتحول الجيش الفرنسي لقوى ضاربة لصالح زعيم أحد الفصائل السياسية الافريقية ضد شعبه، وهذا الخنوع والاستسلام لقوة الجيش الفرنسي لم يكن ينتقص من سلطة وسطوة ذاك الزعيم الافريقي بعيون أتباعه السياسيين! أما الدائرة الثالثة للخوف فهي التسامح، فلا قوة أكبر من أن يشعر الانسان أنه قادر على العقاب وأن الطرف الآخر مقتنع أنه يستحق العقاب لكنه لا يريد أن يعاقب وأنه سامح، هذا التسامح رغم أنه يبدو غير عنيفٍ إلا أنه يزرع الرعب في قلب الطرف الآخر، الذي يتمنى كل يوم أن ينتهي عصر التسامح وينال عقابه وأيضاً حرية تصرفه. وقد كتب ماك ميلان: التسامح سياسة يتحمل من خلالها الإنسان وجود شيء غير محبب ومرفوض اصلاً. وبما أنّ المفهوم يحتوي على وجود شيء غير موغوب به وسيىء، فلذلك يجب تمييزه عن الحرية، وحرية الاختيار. أما الدائرة الرابعة للخوف فهي المساواة، ورغم أن الكثير من المفكرين شرحوا المساواة على أنها حق بشري لكل الانسانية، إلا أن هذه المساواة عندما تكون إلزامية تتحول إلى عبء ثقيل لا يقدر الكثيرون على تحمله، بل إن مجرد إلزام المجتمع بالمساواة تدفعه إلى التكتل العصبي في صيغ عنصرية مثل الطائفية الدينية والتطهير العرقي، ولعل هذا ما قصده برنارد وليام عندما كتب: "إن كل الرجال هم من أب واحد اسمه آدم، وهم ليسوا أكثر من كلمات متكررة، ولكنها مباحة لأنّها تذكّرنا بأنّ الجميع ينتمون إلى فصيلة الإنسان العاقل من حيث التشريح يتكلمون لغة، ويتعاملون مع آلات، ويعيشون معاً، وأنّهم على الرغم من اختلافاتهم العرقية يتكاثرون وهم متساوون بطريقة أخرى غير التي نعرفها". فالخوف مهما بلغ من مستويات لا يمكن أن يكون إلا عقدة الليبرالية الدائمة، فالولايات المتحدة الأمريكية دائمة البحث عن عدو لترويج الخوف بين شعبها، الخوف من الشيوعية، من الإرهاب الإسلامي، من الهجرة غير الشرعية للمكسيكيين، من عدو قادم من كوكب آخر، هو فن صناعة الخوف الذي لابد أن يستمر حتى تتمكن الليبرالية من قبول منهاجها للعقلية المجتمعية الواثقة أن الليبرالية تحمي المجتمع من الخوف!
أما المركب الرابع للعقلانية الليبرالية فهي نظرية النخبة، فهي الجماعة المحظية لدى شيوخ القبائل، وهي الصالون المخملي للأمراء، وهي المستشارون لرئيس الدولة، وهي الإطار الحامي للكينونة الوراثية المكتسبة، إنها مران تكوّن الشخصية الخاصة ضمن ظروف أكبر من محيطها الصغير ودون خروجها من مجتمعها الذي يشابهها، إنها فطرية الانتماء للجماعة وحتمية الولاء لقيادة هذه الجماعة، وقد اختصرها أدولف هتلر بأنها الأقلية الفاعلة أو كما كتب: "علينا باعتبارنا حزباً أن نبقى أقليّة، لأنّنا حرّكنا العناصر الأكثر قيمة في الكفاح والتضحية في الأمة، وهذه العناصر هي التي تكوّن الأقلية وليس الأكثرية". وقدّم بريجيت بروفي مثالاً صعباً جداً على فهم رأي الأكثرية وخطرها على المجتمع عندما كتب : "في يوم من الأيام أشار استطلاع الرأي بأن 33.33 من الشعب يعتقد بأن 2+2=5. فذهب بعضهم إلى أنّ هذا يجعل التغيير في نظام التعليم أمراً ضرورياً. وفي استطلاع رأي آخر جاء أن الذين يناقشون الأمر بهذه الطريقة هم بضعة أشخاص اعترف لهم بعدم التوازن والعقلانية، وتبع البرلمان السلوك المنطقي في الأمر وقرر أنّ على كلّ كمبيوتر وكلّ كتاب مدرسي أن يعمل بالقاعدة القائلة أنّ 2+2=4!"
بعدما شرحنا العقلانية الليبرالية للمجتمع والسلوك المجتمعي داخلها ضمن تعميم الفعل وردات الفعل، لابد أن نقرأ منهجية التفكير الداخلي أي حوار الأنا مع ذاتها، ومقدرة النفس البشرية على كبح رغباتها الإيجابية والسلبية، فالليبرالية تدعو البشرية إلى ضرورة أن يرتدوا قناع وجه سميك وأسود اللون، إننا مطالبون أن نفهم لماذا يتحول الانسان إلى ليبرالي؟ فهي سلبية يختارها الانسان لا ليتميز عن غيره بقدر ما هي ضرورية لإثبات ذاته وفقاً لقناعاته الجديدة. فعملية تغيير طريقة التفكير من المنهج التوافقي التراكمي الذي يجمع بين ضرورة الحفاظ على الموروث المجتمعي والخبرة الذاتية المكتسبة. وهي تبدأ بنظرية الرؤية الحرة أي القدرة على تخيّل الحدث وإمكانية حدوثه مرة أخرى بوجود الشخص داخل الحدث، مما يعني أنه قد يصاب بذعر شديد أو فرح شديد رغم أنه مجرد تخيل هذه المَلَكَة تُعَّد فناً من فنون التخيل في فهم الحدث وإمكانية تكراره أو التعديل على نتائجه، أنها إباحية الحركة في فضاء الحدث، بل أنها سطوة على طبيعة الحدث وشكل نتائجه، إنها ليبرالية التحليل السياسي بدون وجود سياسة محددة مطلوب تحليلها، فهي مجرد فرضية متغيرة ترفض أن تثبت بقالب واحد، إنها متاهة الحدث في عقل الليبرالي! كما أن الليبرالية تحيط الانسان بإطار التخيلي وهذا الإطار ذو مجال مغناطسي سلبي جاذب للمركز، وهي تسمى أيضاً القابلية السلبية هي قدرة الشخص على التحرر من كل إحساس بشخصيته وأن يتفتح ويصبح أكثر من مجرد جهاز استقبال حساس فهي مثل التفنن في قراءة قصيدة عشق والإحساس العميق بمعانيها رغم أن الشخص الذي فهمها لا يعيش حالة عشق، بل مجرد حالة توحد مع القصيدة، وهذه القابلية النادرة بحدوثها إلا أنها تعتبر بداية الصعود التدريجي لمفهوم شاعر للإيجار، حيث يقوم الشاعر بكتابة قصيدة عشق ليست له بل لشخص يعيش حالة عشق أما الشاعر فهو يترجم إحساس ذلك الشخص لقصيدة مقابل أجر مالي، هذه القابلية السلبية العظمى أو كما سمّاها الشاعر الانجليزي كيتس قابلية الإحساس المتناسخ.
من هنا يكون الليبرالي شخصية لها خصائص براغماتية ذات نزعة إباحية في فهم الحرية والمساواة والعدالة، فهو لا يتذبذب بين أمرين مختلفين، بل إنه يعشق أن يكون حراً لا يمتلك رأيين، بل أن براغماتيته تجعله يتقبل كل ما هو ذو نزعة إباحية دون أن تكون هذه هي قناعاته، بل هي مجرد محاورة بين الرغبة المنطقية للتحرر والإيمان المطلق أن كل الأفكار مباحة وقابلة لتحقيق إن كان هناك رغبة حقيقية في تحقيقها. هذه الرغبة التي ترفع قيمة الأنا في النفس البشرية، بل أنها ترفض أن تخضع لأولويات العقل والاحتياجات الأساسية للبشر، فعندما وضع إبراهام ماسلو التسلسل الهرمي للحاجات كان يرسم الخطوط العريضة لمفاهيم الاقتصاد الوطني وقدرة الحكومة على التخطيط للأجيال القادمة، وهو الذي وضع إثبات الذات على رأس الهرم أي أن الهدف الحقيقي للإنسان هو إثبات ذاته، كما أن الهدف الأسمى للحكومة أو الحزب السياسي هو إثبات ذاته واستمرار سيطرته على آليات التسلسل الهرمي للحاجات مما يجعل الحزب السياسي قادراً على توجيه الجماهير الشعبية وفق إرادته السياسية التي تسعى إلى تحقيق الحد الأقصى من إثبات الذات للحزب السياسي حتى في ظل توفير الحد الأدنى من الحاجات الأساسية للجماهير الشعبية. وهنا يرى كولن ولسون أن التسلسل الهرمي الذي كان فعلاً هرمياً يضع المأكل والمشرب والمسكن في أسفل الهرم قد تغيّر لأن شكل الحكم قد تغير وفرضت الحكومات تغيرات جذرية على مفهوم الحاجات الأساسية للشعب، فمثلاً الجنس والتكاثر بين الفقراء مرتفع جداً بل إن معدل الإنجاب لمن ينامون بالعراء أعلى بكثير من معدل الإنجاب لمن ينامون في القصور الفارهة، وإن الأمن لا يؤثر على معدل الإنجاب فمناطق الحروب لم تشهد انخفاض في عدد المواليد، وأكثر من ذلك لا يعتبر الغذاء هو الهدف الابتدائي للبشر بالقرن الحادي والعشرين، بل أن مسألة الغذاء المغموس بالذل والاستعباد مرفوض لدى الغالبية العظمى، رغم انتشار المهن الوضيعة بين الفقراء لكن هذا لا يمنعها من التعبير عن رفضها للاستبداد السياسي وبذلك تكون ترفض منح الحكومة أو الحزب السياسي هدفه بإثبات الذات والسيطرة على المجتمع.
أن تكون الكتابة ذات قدرة على التأثير يعني أنها قادرة على إثارة الجماهير وفقاً لليبرالية العقلانية، ورغم أن هذه الإثارة عادةً لا تكون لوقت طويل إلا أن اللسعات المتكررة تجعل المجتمع يتقبل أن هناك مفهوماً جديداً يفرض نفسه، إنه مفهوم الإثارة لا تكون إلا بالأخبار الجديدة، ومهما كان الخبر هناك شغف مستمر لدى المجتمع لمزيد من الأخبار الطازجة، لأنه تعوّد على نظام اللسعات، وهذا السبب الحقيقي وراء غياب المبادرة المنظمة في المجتمعات الحديثة، فأغلب الانقلابات السياسية وحتى الثورات المعاصرة انتهجت سرية التخطيط واعتمدت على عوامل المفاجأة والتخفي والمواربة من أجل تهيئة المجتمع لقبول القفزات السريعة التي تنتظر المجتمع، فهي ليست أقلية الصفوة كما هي عند هتلر بل هي الطليعة الثورية الرائدة عند ماو تسي تونغ، وغالبية أشكال الفكر الليبرالي له خيال وظل بالفكر اليساري لأن الإباحية الفكرية التي يطرحها الفكر الليبرالي تكون أساساً واقعياً للمدرسة الاشتراكية الثورية إذا ما تم وضع الضوابط اللازمة لتحقيق العدالة المجتمعية والمساواة بين التراكيب المختلفة للمجتمع. إن عقدة إثبات الذات في الفكر الليبرالي هدمت كل الضوابط الحاكمة لعملية إثبات الذات، بل إن إثبات الذات تحوّل إلا هاجس وهوَس قادر على تدمير من يؤمن بضرورة الوصول له بأسرع وقت وأي طريقة، إنها معركة شرسة ضد الرغبات الفطرية للبشر، حيث تنخفض أهمية وفرة الطعام اليومي لدرجة القوت الفقير مقابل أن صور أثبات الذات ترفع من القيمة المجتمعية للفرد وتحوّله إلى نوع من النخب المميزة والقادرة على تمثيل المجتمع، وهذا بالتأكيد مخالف للتسلسل الهرمي للحاجات البشرية ليس عن ماسلو فحسب، بل عند أقدم الدارسين لتطور الفكر الليبرالي، هذه التشوهات في تحقيق الذات البشرية لا تؤثر على تفكير البشر فحسب، بل انها تؤثر بصورة وشكل الذات البشرية، فهي حتى لو حققت الشهرة أو الانتقال لمرحلة النخبة، سوف تبقى هزيلة ولا تقف على أقدام ثابتة أنها لم تتدرج في تحقيق ذات.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها