في إحدى الليالي من العام 1985 أثناء الحرب الأوغندية الأهلية الثانية اقتحم خمسة جنود مخمورين منزل جوليا سبيوتندي التي عادت للتو من المستشفى بعد أن وضعت وليدها الثاني تئن من ألم جروح العملية القيصرية التي أجريت لها.

كانت العاصمة كامبالا في تلك الأيام كلها تئن تحت وطأة حرب دموية انتزع فيها الكثير من المدنيين الأبرياء من فراشهم ودفعوا إلى أتون نيران الحروب.

لكنها مفارقة ان تروى هذه القصة في مساء لاهاي المدينة التي لا تظهر فيها الاسلحة الا في جراب أفراد الشرطة الهولندية على بعد عشرات الأمتار من مقر محكمة العدل الدولية.

داخل مقر المحكمة او ما يعرف بقصر السلام، وهو بناء شيد قبل 103 سنوات ومن المكان المخصص للنظر في نزاعات الدول، انثالت ذكريات سبيوتندي" كانوا سكارى ويحملون بنادق كلاشينكوف اي كي- 47 بحرابها. كسروا الباب بعد ان سمعوا صراخ الطفل في فراشه ".

قبل ايام قليلة فقط انجبت المرأة بعملية قيصرية، وكان عليها أن تقضي فترة الحرب وحيدة بعيدا عن الزوج الذي كان خارج العاصمة الأوغندية كمبالا التي هجرها معظم سكانها ولم يتبق فيها الا منازل منعزلة هنا وهناك.

في تلك الليلة لم يخرج الجنود من المنزل الا بعد ان اعطتهم هذه السيدة التي تجلس اليوم على واحد من اهم مقاعد القضاء الدولية جهاز راديو.

كانت السيدة التي اصبحت بعد أكثر من عقدين أول قاضية إفريقية في اكبر هيئة قضائية دولية تعرف ان الجنود الذين اقتحموا عليها بيتها يحبون اجهزة الراديو.

" لكنهم طلبوا خمسة. جهاز لكل واحد(..) في تلك الليلة اخبرتهم اني لا املك الا واحد. سالوني نريد خمسة اجهزة (..) كيف نقسم الواحد علينا".

لكنهم في النهاية اكتفوا بالجهاز وغادروا.

" بقيت في تلك الليلة مذعوره خائفة. كنت لازلت اعاني من قطب الجروح ".

لم تكن هذه الحرب الوحيدة التي عاشتها المرأة" عشت ثلاثة حروب اهلية كدت في كل واحدة منها ان افقد حياتي وحياة اطفالي"، تروى داخل القاعة التي لها نوافذ تدخل جزء من الضياء الشحيح في المدينة التي تظهر فيها الشمس نادرا خلال الشتاء البارد.

اثناء الحرب الاهلية في تلك البلد أجبرت الجماعات المسلحة الكثير من المدنيين على الانخراط في الحرب واختطفت الكثير من الفتيات.

" كنت أخشى على عائلتي كثيرا. اعرف الكثير ممن فقدوا حياتهم خلال تلك الحرب" تقول سبيوتندي وهي تقف أمام مقاعد هيئة القضاة الذي يتوجب عليهم الفصل بين نزاعات الدول او إعطاء رأي استشاري.

ومحكمة العدل الدولية هي الذراع القضائي للأمم المتحدة وموجودة خارج نيويورك وتتولى الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم الفتاوى بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

وقصة وصول أول امرأة أفريقية الى هذه المحكمة ليست إلا قصة تكتب بدموع الالم قبل 3 عقود ودموع الفخر هذه الأيام.

لكن سبيتندي التي تبلغ اليوم 62 عاما ترويها بهدوء يميز كل من يعمل في هذا المكان من حراس وقضاه وادريين وافراد امن يجلسون خلف شاشات أجهزة الفحص الاشعاعي.

وتضفي أعداد من الثريات المعلقة في السقف المرتفع هالة من الهدوء على الشعاع الذي ينير وجه هذه السيدة التي تمكنت من الوصول الى هنا بعد ان تدرجت في العمل في المنظومة القضائية الأوغندية قبل أن تعار عام 2005 لتصبح قاضية في المحكمة الخاصة بسيراليون.

هناك سمعت القاضية الشهادات في القضية ضد الرئيس الليبيري السابق القوي تشارلز تايلور. وفي نيسان من العام 2012 أصبح تايلور اول رئيس دولة افريقي يتم تجريمه لدوره في ارتكاب جرائم حرب.

كان الحكم الذي صدر على تايلور وراء ترشيح تلك المحكمة لسبيوتندي لمنصب قاض في محكمة العدل الدولية.

كان قد مر على تلك الليلة التي كادت أن تكون فيها ضحية لجريمة حرب 27 عاما خلالها تعلمت السيدة القانون وتدرجت في العمل القضائي حتى بات الحديث أفريقيا عن ترشيحها لهذا المنصب الجديد يشغلها.

بعد 13 جولة من التصويب في الامم المتحدة اصبحت سبيوتندي اول قاضية سوداء في هذه المحكمة في العام 2012.

"كانوا في افريقيا كبار وصغارا يرون في ذلك أمر مستحيل(..) قالوا لي لقد فتحت الباب امام اخرين للوصول الى هنا".

خلال 70 عاما من تأسيس هذه المحكمة جلس على مقاعد هيئة القضاء 4 نساء فقط بمن فيهم سيبوتندي ذاتها.

فالجمعية العامة للأمم المتحدة التي تختار القضاة تبحث عن العوامل المحفزة في مسيرتهم المهنية.

" انا قادمة من منطقة البحيرات العظمى، وهي منطقة صراعات ومهجرين ومنطقة شهدت اكبر حالات من الاغتصاب والقتل". قالت سيبوتندي التي تعود بين الحين والاخر لسرد جزء من تفاصيل حياتها اثناء الحرب الاهلية الأوغندية.

يسود صمت قصير جدا تنظر خلاله السيدة قصيرة القامة ذات الشعر المهذب الى الجالسين في صف مقاعد امام مقاعد هيئة القضاء.

لا تبحث محكمة العدل الدولية في قضايا الافراد، لكن صلب عملها هو التحكيم في النزاعات بين الدول.

وعندما اختيرت سيبوتندي كان سيرتها المهنية والأكاديمية والشخصية متخمة بالأحداث منذ ولادتها لأبوين اوغنديين في 28 شباط 1954.

انها سيرة افريقيا التي هزتها الحروب الأهلية الكبرى. وفي هذا المكان سيرة اول قاضية سوداء في أعلى هيئة قضائية اممية.

" نحن هنا لمنع نشوب حروب(..) لقد تمكنت المحكمة من إيجاد الحلول للكثير من القضايا المتنازع عليها".

لا تعكس الأضواء واللوحات التي تؤطر واجهات قاعة المحكمة الرئيسة طبيعة النقاشات القضائية الدولية هنا.

فلا يمكن تخيل كيف تناقش هيئة المحكمة مثلا مقاضاة دولة "جزر مارشال" الصغيرة في المحيط الهادئ في هذه القاعة ذات اللوحات الفنية شديدة العمق، كافة القوي النووية في العالم أمام محكمة العدل برفعها قضية ضدها لمطالبتها بالوفاء بالتزاماتها تجاه التفاوض على نزع السلاح النووي في كافة أرجاء الأرض.

تبدو القاعة التي صمتت ضمن هذا القصر الذي افتتح في 28 اب العام 1913 مكان لسكينة النفس المتعبة التي تبحث عن مشاهد حية في أطراف الغابة التي تظهر من النوافذ الطويلة للبناء.

انها في الحقيقة نموذج هندسي معقد للبناء الهولندي القديم الذي تصل إليه عبر ممرات تحفها الأشجار الباسقة من الجهتين في غابة زورغفليت.

ان لاهاي مدينة المفارقات الكبيرة في جمعها بين سلسلة من المحاكم الاكثر جدلا في العالم.. والأحكام الأكثر صخبا.. وبين الهدوء الذي يسرى في تفاصيل حياة سكانها.

لكن ما الذي تتميز به هذه المنطقة من بحر الشمال البارد التي لا تتوافر فيها قصص الدماء والحروب غير داخل قاعات المحاكم بحيث جذبت سيبوتندي إليها مع آخرين من مناطق النزاعات في العالم؟

لا تكمن الإجابة في ان الماضي الدموي الذي فر منه هؤلاء وحده هو الميزة الوحيدة اضافة الى التعليم الجيد والقدرة على القيام بالمهمات القضائية الكبيرة"

بل تكمن في المستقبل.

هذا ما يمكن فهمه من روح حديث سيبوتندي وهي تحاول ان تبرهن ان علاج قضايا الماضي هو أمل المستقبل.

" كامرأة إفريقية عانت من الحروب الأهلية سابقا أقف مع الضحايا ودائما نع الضحايا. لا يمكن ان اكون في صف المجرمين". قالت المرأة التي صنفت كواحدة ضمن أكثر 100 افريقي مؤثرين في العالم.

لم يكن الوصول إلى هنا سهل بالنسبة لسيبوتندي كان عليها ان تقطع طريقا طويلا من البحيرات العظمى الملتهبة في افريقيا الى لاهاي التي يغلفها البرد في وسط اوروبا.

انها في الحقيقة طريق لم تكن في مخيلة افريقيا من قبل.

"عندما قرروا ترشيحي لهذه المحكمة. ذهبت لأبحث عن المحكمة في الانترنت طالعت صور الرجال الذين عملوا هنا خلال العقود الماضية. لقد اذهلتني الفكرة وايضا أخافتني (..) اعتقدت ان هؤلاء الرجال لن يقبلوني ان اكون بينهم."

"أنا هنا في المكان الذي لم تكن فيه إفريقية من قبل"، قالت تسيبوندي لعدد من الصحفيين بعد أن أخبرتهم كيف أن جهاز راديو أنقذ يوما حياتها وحياة طفلها الوليد.